هل الرواية محاولة لاغتيال الموت الشخصي لمؤلفها؟ رحل الفنان الرائع عمر الشريف وكتبوا الكثير عنه في تلك المناسبة، وبعد أعوام سيُنسى كما حدث دائماً لنجوم هوليوود… أما باسترناك فالقلائل يعرفون اسمه قياساً إلى شهرة «الدكتور جيفاكو» ولكنه هو الذي خلقه على الورقة البيضاء، وأبدع عمر الشريف في أداء دوره على الشاشة. هذا قدر الأدباء. يستمر أبطالهم أحياء ويتم نسيانهم. وهم يشتهون ذلك إذ يستمرون أحياء في بطلاتهم/أبطالهم ويقتلون بذلك موتهم! وأيضا سينسى الناس عمر الشريف الذي استطاع ان يتلبس بطل رواية باسترناك بإبداع، كما المخرج للفيلم دافيد ليفين ومبدع ألحانه الرائعة موريس جار. أولئك جميعاً سيلفهم النسيان مع الزمن، وسيبدو الفيلم ذات يوم عتيقاً ووحده «الدكتور جيفاكو» سيبقى حيا شاباً وسيما في الذاكرة. جائزة نوبل أم جائزة النسيان؟ نعم. باسترناك فاز بجائزة نوبل عن روايته «د. جيفاكو» لكنه لم يفز بجائزة الذاكرة، لا هو ولا مبدعون آخرون.. كلهم قد يستمر في أحد أبطاله حيث يتوهم الكاتب انه خلق بطله أو بطلته لكنه البطلة/البطل يلتهم (خالقه) على الورق ويتابع حياته بشيء من الصلف، كما فعلت «بيجماليون» بالكاتب برنارد شو. أما بطل الرواية المتنكر (لخالقه) فيحق له الزهو لأنه استطاع ان يخرج كالجني من الحبر إلى الدم الحي. وهكذا فالملايين اليوم مثلاً يعرفون «دون كيشوت» مقاتل طواحين الهواء، ويستشهد بشخصيته الناس، والقلائل يعرفون اسم الأديب المسكين «سرفانتيس» الذي أبدعه على الورق ورحل في القرن السابع عشر.. «دون كيشوت» التهم الذي أبدعه، أم ان سرفانتيس استمر في «دون كيشوت» واغتال موته به؟ الملايين أيضا يعرفون «جيمس بوند» العميل السري في المخابرات البريطانية ويجهلون اسم «يان فليمنغ» الأديب الذي أبدع شخصيته (إلا قلة منهم). وسيتذكر الناس دائما «شارلوك هولمز» المحقق الذي يصطاد المجرم بنجاح وينسون اسم من أبدعه على الورق آرثر كونان دويل.. سننسى أيضا ماري شيللي (إذا افترضنا اننا نعرف اسمها) التي خلقت على الورقة شخصية «فرانكشتاين» ورحلت في أواسط القرن التاسع عشر وبقي «فرانكشتاين» حيا في الكثير من أشرار كوكبنا اليوم وغداً!! مات دافنتشي في القرن السادس عشر وبقيت «الموناليزا» في متحف اللوفر الباريسي يزورها ملايين الناس ولا يمر أحد عليه ليزور قبره قرب «امبوان» بوادي «اللوار» في فرنسا أيضاً. مات غوته الأديب الألماني الكبير، كما مات الذين أبدعوا مثله شخصية «فاوست» بالكتابة كلورانس داريل وكريستوفر مارلو ولينغ وفاليري وتوماس مان، أو رسما كما فعل رامبرانت وديلاكروا. «فاوست» الذي عقد صفقة مع الشيطان وباعه روحه مقابل شهواته وألهم أيضاً الموسيقيين أمثال فاغنر وليست. مات الموسيقار بيزيه وبقيت «كارمن» الجميلة في تلك الأوبرا الخالدة المرحة. مات فلوبير وبقيت «مدام بوفاري» نموذج المرأة الخائنة التي خانت زوجها لتعيش نداء الحياة. هل ينتصرون على موتهم حقاً؟ لا أظن ان كاتب الرواية يجلس ليكتب عملاً ما وقد قرر قتل موته! ولكن ذلك يحدث على نحو ما، إذ يستمر المبدع في أبطاله.. ولذا أحببت كثيراً التعبير الذي اخترعه الشاعر عبده وازن في كتابه «غرفة أبي» وهو «رواية سير ذاتية». واعتقد ان رواية «د. جيفاكو» لباسترناك الفائز بجائزة نوبل من هذا النمط بامتياز. فهو الشاب الملفوف بملاءات الإبداع منذ طفولته. أبوه ترك الطب للانصراف إلى الرسم ونجح، حتى ان تولستوي طلب منه رسم غلاف طبعة فاخرة من كتابه «حرب وسلام»، وأمه عازفة بيانو. الخيبات بالثورات باسترناك الشاب الذي تفتح على الثورة البلشفية ثم خاب أمله فيها، رسم ذلك بإبداع في روايته «د. جيفاكو». ومن منا لم يخب أمله ذات يوم بثورة مزعومة ما.. ولطالما حدث ذلك في ربيعنا العربي الموهوم. في «د. جيفاكو» نجد أيضاً غرام الرجل المتزوج بامرأة غير زوجته، وهي حكاية أزلية أليمة للأطراف كلها! إنها حكاية عصرية ومستقبلية ومادة درامية خصبة تعري الطبيعة البشرية. وفي أعمال كل منا «دون كيشوت» ما يقارع طواحين الهواء، و«فرانكشتاين» مفرط البشاعة في بعض اللحظات و»فاوست» الذي يكاد يعقد صفقته مع شيطان ما لأجل مصالحه الآنية وقد يفعل إكراماً لآلهة المال التي تصعب مقاومتها في عصرنا بالذات! أبطال الروايات كلهم الذين يستمرون فينا يرسمون بعضاً من طبيعتنا البشرية فنتذكرهم، ربما لروعتهم إبداعياً أو لنرجسيتنا التي يحلو لها أحياناً أن ترقب شرورها في المرآة بكل غبطة!!. والمحصلة؟ يموت الكاتب ويتم نسيانه كما نسينا الكاتب (المغمور) في عصره ملفيل لحساب الحوت «موبي ديك». فالأديب يعرف أنه سيموت ولعله يتمنى سراً الاستمرار حياً في سطوره عبر أبطاله.رحيل الفنان الكبير عمر الشريف ذكرني بأمر آخر أليم، وهو ان مؤلف الرواية يبذل كل ما بوسعه ليحيا أبطال قصصه، ولعله يعشقهم ويكرههم في آن لأنهم وحدهم سيستمرون وسيموت هو، كما سيموت الذين تقمصوا شخصياتهم على الشاشة بإبداع. لكنني لن أنسى يوماً أداء عمر الشريف لدور «د. جيفاكو» أمام ضوء الشمعة الخافت، وهو يكتب قصائد حبه إلى لارا التي أحبها وأحبته حباً رجيماً، فقد كان متزوجاً. ولن أنسى عُمر/جيفاكو وهو ينهار في المحطة على رصيفها في موسكو وينادي حبيبته بأنفاسه الأخيرة.. ولم تسمعه لحسن حظها!