في رصيد الأميركي مارك ميدوف ما يقارب الثلاثين مسرحية، ولكن شهرته العالمية نالها عن عمله المتفرد “أبناء الصمت”، ولا يزال يلقى النجاح منذ عرضه الأول في برودواي مطلع الثمانينات من القرن الماضي، ويفتن الجمهور حيثما قُدم، كما هو الشأن هذه الأيام في مسرح “التمراد القديم” بباريس. مارك ميدوف (المولود عام 1940) هو ممثل ومخرج ومؤلف مسرحي وكاتب سيناريو أميركي. بعد دراساته العليا بجامعة ستانفورد، عمل مدرسا للغة الإنكليزية، والفن المسرحي الذي ألف فيه نصوصا لم تحظ باهتمام كبير، حتى كانت رائعته “أبناء الصمت” التي كتبها عام 1980، وعرضت في نيويورك، حيث فازت ب”توني أوارد” أرفع جوائز الفن المسرحي في أميركا، ثم في لندن وباريس وسواهما من مدن العالم. والمسرحية حولتها في ما بعد المخرجة رندا هاينس إلى شريط سينمائي ناجح نالت عنه الممثلة مارلي ماتلين أوسكار أفضل ممثلة وهي في سن الواحدة والعشرين، لتصبح أصغر ممثلة فازت بمثل هذه الجائزة. مثلما نالت من بعدها الممثلة الفرنسية إيمانويل لابوريت (وهي بكماء) جائزة موليير للمواهب المسرحية الشابة عام 1993 عن الدور نفسه. نهض بالعرض هذه المرة ممثلون وممثلات من فرقة ال”كوميدي فرنسيز”، (ناطقون، بخلاف كل العروض السابقة) تدربوا جيدا على تملك لغة الإشارات التي يتخاطب بها الصم البكم في ما بينهم، فكان الأداء مذهلا حقا، ومعبرا بشكل يدرك المتفرج معانيه بغير مشقة، ويغوص في عالم مجهول، ليكتشف الحواجز بين الناطق والأبكم، فكلاهما يحسّ ويتألم ويفرح ويحزن ويفلح ويخيب، وما الفرق بينهما إلاّ اللسان كأداة للتعبير عما يضطرم في النفس. والطريف أن من نعتبره معوقا، يتمسك ب”إعاقته” تلك، ولا يروم عنها تبديلا. وأبطال المسرحية ليسوا متماثلين، إذ هم لا يتكلمون لغة واحدة. فسارة تستعين بلغة الإشارات ولا تتكلم. ودوني يقرأ على الشفاه ويتكلم. وجاك مطبب النطق يتقن اللغتين. والمستر كلاين المحامي يسمع فقط ولا يحسن النطق. ومن ثَمّ، كان لزاما أن يتسلح الممثلون بأقصى طاقات التركيز، وأن يكون الإخراج في دقة ساعة سويسرية، وهو ما وفقت فيه المخرجة البلجيكية آن ماري إتيان باقتدار وحرفية عالية، مثلما أبدع الممثلون في تقمص الأدوار الموكولة إليهم، وخاصة فرنسواز جيلار في دور سارة، وهي ناطقة عادية، بلجيكية هي أيضا، لها أخت صمّاء بكماء، تعلمت منها مبادئ استعمال لغة الإشارات، ولكنها استعانت، مثل سائر ممثلي المسرحية، بممثل أصمّ وناطق في الوقت ذاته يدعى جويل شالود ساعدها على إتقان هذه اللغة وفكّ رموزها. تروي المسرحية قصة حب بين جاك ليدز وسارة نورمان. جاك مطبّب النطق في مدرسة متخصصة يعمل على تدريب الصمّ والبكم على النطق والكلام، وهو أيضا لسان وساطة بين المتفرج وعالم الصمت والإشارة. أما سارة فهي فتاة صمّاء ترفض أن تتعلم قراءة الكلام على الشفاه، واختارت أن تعمل منظفة في المدرسة التي زاولت التعلم على مقاعدها. ورغم الاختلاف في المستوى الفكري والاجتماعي ورغم فارق السن و”إعاقة” أحد الطرفين، تنشأ بينهما مودّة، ثم محبة ظلت بين إقدام وإحجام، حتى توطدت بينهما علاقة تقوم على قبول الاختلاف. المسرحية تعالج ثيمات ثلاثا: الأولى موقع الصم والبكم داخل المجتمع وطرق التعامل معهم. والثانية رغبتهم في أن يعاملوا معاملة سائر الناس ورغبتهم في التواصل مع الآخرين. والثالثة وهي التي جعلت كمحرك للعملية الدرامية قدرة الحب على تجاوز الاختلاف في شتى مظاهره، الخَلقية منها بوجه أخص، فعادة ما يميل الصم البكم إلى أمثالهم تجنبا لسوء الفهم الذي قد ينشأ عنه الخلاف والصدام والقطيعة، ولكن الحب أقوى من أيّ اعتبار. تقول سارة لتبين أنها فطِنة لا يفوتها أمر “عيناي هما أذناي”، ويقول جاك مسويا بين الصمت والصوت “الصمم هو صوت مليء بالضجيج”. كيف يمكن أن نسمي العالم والأشياء لكي تتخذ لها وجودا خارج العدم؟ مسرحية “أبناء الصمت” تجيب عن هذا السؤال، لتأخذ المتفرج إلى ذلك العالم المدهش والغامض والملغز، وفي الوقت ذاته تضع الإصبع على مواطن يبدو فيها الاختلاف بين الناطقين وغير الناطقين أشبه بهوة عميقة، إذ تبدو بعض العبارات عسيرة، متمنعة على “الترجمة” سواء من لغة الإشارات أو إليها، كقولهم “شعلة الحب” أو “بريق الأمل” أو “متاهات الزمن”، لكونها استعارات عصية عن النقل مهما اجتهد الطرفان. يذكر أن إحدى جمعيات الدفاع عن حقوق الصم والبكم وزعت مناشير عشية العرض الأول جاء فيها “أيها الصم، أيها السامعون، يا من تعنيهم قضيتنا من قريب أو بعيد، التحقوا بنا لتؤكدوا أن الصم أيضا لهم حق الحضور في عالم الفنون”. فيما عبّرت جمعيات أخرى عن استيائها من إسناد أدوار الصم إلى ناطقين. وأيا ما يكن موقف المتفرج من هذه المسرحية، فهو لا يمكن أن ينساها بسهولة، لأنها واقعية، صادقة، مربكة، تثير قضية مجتمعية حساسة.