وُلِد الشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه ( 1875_ 1926) في مدينة براغ ، وتُوُفِّيَ في فالمون بالقُرب من مونترو في سويسرا . يُعَدُّ أحد أهم شعراء اللغة الألمانية في القرن العشرين . ومعَ أنه يَحمل الجنسية النمساوية ، لَم يشعر بالانتماء إلى موطن مُحدَّد ، بل إلى أوروبا والعالَم . كان والده ضابطًا في الجيش النمساوي، وكذلك عَمُّه الذي منحه القيصر لقب فارس ، فصارَ مع ذُريته من النبلاء . أمَّا والده فقد اضْطُر _ بسبب المرض _ إلى التخلي عن المستقبل الواعد ، والقَبول بوظيفة عادية في دائرة السِّكك الحديدية ، مِمَّا أدى إلى فشل حياته الزوجية . وقد كانت والدة ريلكه من عائلة شديدة الثراء ، ومُقرَّبة من البلاط القَيصري . نزولًا عند رغبة عائلته، دخل ريلكه معهد التربية العسكرية ، وتعلَّمَ فيه خلال الفترة( 1886_ 1891) ، ثم انتقل لمدة سنتين إلى المعهد التجاري ، وبدأ إثر ذلك بتلقِّي دروس خصوصية ، تحضيرًا للشهادة الثانوية التي درس بعدها _ بناءً على رغبته _ تاريخَ الفن والأدب والقانون في براغ ثم ميونخ ثم برلين ، حيث تعرَّف على عدد كبير من الأدباء والفنانين . تُعتبَر حياة الشاعر ريلكه وأعماله مثالًا جَلِيًّا على إقصاء الفنان ، في حقبة اتَّسمت بتوالي الأزمات الاقتصادية ، والنمو الرأسمالي ، والتوسع الاستعماري . وبالتالي ، فإن أعماله الشعرية والنثرية ورسائله ، جاءت تعبيرًا عن إحساسه الحياتي العميق بالاغتراب ، وانكفاءِ الفكر والحياة الروحية ، وانعزالها عن العالَم الخارجي . مِمَّا وَلَّدَ حالة من الحساسية المُفرطة التي أنتجت بدورها انطوائية صعبة . وجاءَ هذا التعبير في لغة يتغلغل جمالها في نفس القارئ ، مع إتقان فني تجديدي رفيع المستوى ، جعل أعماله خالدة مِثل نتاج كبار الشعراء عبر التاريخ . إن ريلكه _ الذي جعل مِن وجوده مادةً شعرية _ لَم يُتابِع تقاليد الحركة الرومانسية الإبداعية فَحَسْب ، بل وضع نَفْسَه عن وعي وقصد في حالة تَعَارُض مع سُوق النشر والابتذال البرجوازي ، وفي مواجهة مَكْنَنة الحياة وتشييئها وتصحيرها ، وضد اغتصاب الموجودات واستغلالها بالأساليب الحديثة حينذاك . وكذلك ضد العدوانية ، وتبلُّد الإحساس ، والخواء الفكري . كان يميل إلى تكريس عُزلة الذات، ورفض السُّلطات الاجتماعية ، وكان يهرب مِن مواجهتها نحو أعماق الذات الآمنة . وقد بدأ حياته الأدبية في ميدان الشعر مُتَأثِّرًا بِ " الأسلوب الشاب " الذي ساد أوروبا فَنِّيًّا أواخر القرن التاسع عشر ، وكانت قصائده تدل على حساسيته تجاه الإيقاعات الحِسِّية في اللغة . وفي ديوانه " كتاب الساعات "( 1905 ) ، يتناول الشاعر تجربته في روسيا وانطباعاته المبكرة عن باريس . ويُهيمن على قصائده الشعور بوَحدة الوجود الذي يربط الذات بالعالَم والإله ، كما تُعبِّر هذه القصائد في الوقت نَفْسه عن وعي ريلكه الحاد بالدمار القادم للعالَم، وسيادةِ الانعزالية والخواء. وقد تحققت مخاوفه الرُّؤيوية هذه باندلاع الحرب العالمية الأولى . ومع ذلك ، بَقِيَ لديه بصيص أمل بيقظة التآخي بين البشر . أمَّا الكتاب الذي أوصل الشاعر إلى الشهرة في أوساط الجيل البرجوازي الشاب، فهو مجموعة القصائد النثرية " طريقة حب وموت كورنِت كريستوف ريلكه "( 1906 ) ، التي يسرد فيها _ استنادًا إلى جذر تاريخي يعود إلى مطلع القرن السابع عشر _ قصة الفارس الذي وجد الحب والموت مَعًا، في أثناء حملة ضد العثمانيين . وعبر القصائد النثرية الست والعشرين ، يظهر الحب والموت في مختلف تجلياتهما ، إلا أن موضوع الموت يبقى مُهَيْمِنًا. ويرى النُّقاد أن هذا العمل ينتمي إلى النثر الشعري أكثر منه إلى السرد الملحمي ، وذلك لغلبة التأملات الذاتية فيه ، والاشتغال المُكثَّف على اللغة . وقد زعم الشاعر في غير مناسبة ، أنه ينحدر من نسل ذلك الفارس . إن دِيوَانَي" قصائد جديدة " ( 1907) ، و " الجزء الثاني للقصائد الجديدة " ( 1908) يُوثِّقان مرحلة التحول الفني الجذري لدى ريلكه ، من الذات إلى الموضوع ، الذي سيصير محور اهتمام القصيدة بدلًا من الإنسان وإحساساته . وهنا ، تتراجع الذاتية الشعرية لصالح الرؤية الموضوعية الشَّيئية للواقع . كتب ريلكه رواية وحيدة ، احتلت مكانةً بارزة في سياق تطور فن الرواية في القرن العشرين، وهي " يوميات مالتِه لاوريد بريغِّه "( 1910) ، التي تسرد بأسلوب المذكرات ، تجاربَ وتأملات شاعر دنماركي في الثامنة والعشرين مِن عُمره في باريس . وعبرها تتسرَّب تطورات ريلكه نَفْسه مُنذ نشأته في براغ إلى تجارب رحلاته إلى روسيا وإسكندنافيا،ولا سِيَّما علاقته بالمدينة الهائلة باريس ، بلحظاتها المفزعة والكريهة التي استنزفت الكثير من طاقته حتى تغلَّب عليها . ولا تخضع أحداث الرواية للتتابع الزمني المعهود ، بل إلى التداعي الحر والمتداخل للذكريات والمُشاهَدات . والجديرُ بالذِّكر أن ريلكه يُسمَّى " الشاعر الذي قَتَلَتْهُ وردة " . ففي أحد صباحات تشرين الأول من العام 1926، خرج ريلكه إلى حديقة مَقَرِّه السويسري كَي يقطف _ كعادته _ بعض ورودها . لَم يكترث عندما جَرَحَتْ يَدَه إحدى الأشواك ، ولَم يَخَفْ حين ظَهرتْ لديه في المرحلة نَفْسها بوادر اللوكيميا ( سرطان الدم ) . استسلمَ بعد أقل من شهرين ، ووافته المَنِيَّة .