قدم المخرج د.جمال ياقوت رؤية إخراجية مغايرة إلى حد بعيد لنص الكاتب الجنوب أفريقي أثول فوغارد "مكان الخنازير" الذي سبق تقديمه برؤى متعددة، وذلك في عرضه "مكان مع الخنازير" الذي قدمه ضمن عروض الدورة الخامسة لمهرجان دبا للمسرح الثنائي الذي تنظمه إدارة المسرح بدائرة الثقافة في الشارقة. العرض يحكي قصة "بافل إيفانوفيتش" الذي فرّ من الحرب ظنًّا منه أنه تخلص من ويلاتها، لكنه ذهب إلى ويلات أشد وطأة حيث ذهب ليقيم بحظيرة الخنازير في منزله الذي يبدو أنه يقع في منطقة نائية، غير قادر على إعلان عودته والخروج إلى القرية ومواجهة أهلها، خاصة أن الجميع بما فيهم قائد المدينة ظنوا أنه استشهد في الحرب ومن ثم يمثل نموذجًا للجندي الذي ضحى بحياته من أجل وطنه. افتتح العرض على ساحة حظيرة الخنازير في المنزل، وجدارين/ حائطين إحداهما بعرض خشبة المسرح تمثل عدادًا لتلك الأيام والشهور والسنوات التي قضاها بافل حبس الحظيرة وهي عشر سنوات وستة شهور، والأخرى الجانبية وتستكمل عداد السنوات ويطل منها باب المنزل بشراعته ذات القضبان الحديدية الثلاثة، وثم مدخل الحظيرة الذي يتناثر فيه القش، لتكون خشبة المسرح زنزانة تشبه إلى حد كبير زنزانة السجن التي اعتدنا رؤيتها في الأفلام المصرية خاصة، حتى مع وجود الزوجة "براسكوفيا" فهي بالنهاية تعيش داخلها. الزنزانة أو حظيرة الخنازير شكلت حالة كابوسية انعكست على مجمل الحوار وحركة الممثلين محمد مرسي وآية بدر، وكان الأمر يزداد كابوسية مع أصوات الخنازير وتحول حائط الزنزانة الذي يحمل تعداد العشر سنوات والستة أشهر إلى شاشة مشوهة ترسل إشارات من ذاكرة عانت في ماضيها وتعاني في حاضرها، لنرى صراعًا نفسيًّا وعصبيًّا مشوشًا يتبادله الفضاء المسرحي، ويتجلى في بافل بهلوساته واضطراباته، وأيضًا زوجته التي أعلنت أنها سجينة هذا المكان ولا تخرج إلا للذهاب إلى المذبح لذبح الخنازير، ومن ثم كانت حائرة بين خياري بافل اللذين لا ثالث لهم خيار الاعتراف أنه فر من الحرب وأنه حي والذي سيترتب عليه فضيحة ومحاكمة عسكرية، وخيار البقاء داخل جدران حظيرة الخنازير. وكلا الخيارين مر بالنسبة لكليهما. سينوغرافيا العرض وفقًا لذلك جاءت مفرداتها بسيطة وإشاراتها كاشفة عن منطوق العرض، وإن كانت في بعض المواقف لم تعمق التوتر الداخلي في شخصيتي العرض بافل وبراسكوفيا، خاصة على مستوى الإضاءة التي لم تخدم بشكل كبير حالات التحول التي كانا يدخلا فيها، أما الديكور ممثلا في الباب والكنبة التي لا تستطيع حمل أكثر من شخص للتمدد عليها وبصعوبة أيضًا، والحائط وإن كان الأخير مفتوحًا على الحظيرة وتارة يتحول إلى شاشة عرض، فإنهما أشرا بقوة إلى الزنزانة لتظل ماثلة كبطل دخل العرض. الحوار في العرض على اختلاف أشكاله كان محكمًا وثريًّا في إشاراته، تتمتع لغته بالسلاسة وجملته بالوضوح والعمق دون تكلف، وهو ما دعم أداء الممثلين، ومكنهما من إيصال رسائل قوية دون افتعال أو انفعال زائد. مطاردة الذاكرة لبافل في نومه ويقظته بدءًا من الجوارب التي غزلتها له أمه وقسوة أبيه وصوت الرفيق وموسيقى الحرب جنبًا إلى جنب أصوات الخنازير، خلقت مناخًا شديد التوتر نجح الممثل محمد مرسي في أدائه وتجسيده ببراعة، كما نجح بالبراعة ذاتها في تخففه بإسقاطات كوميدية لاذعة، ولو كان أداء الزوجة التي لعبت دورها الممثلة آية بدر منسجمًا ومتوافقًا مع أداء بافل محمد مرسي لوصلت رسالة العرض بشكل أقوى بكثير مما رأينا. فالطاقة التعبيرية للممثلة كانت ضعيفة، لذا لم يكن أداءها دورًا معبرًا عن زوجة تعيش سجنًا جنبًا إلى جنب زوجها عشر سنوات وستة أشهر، لم يكن أداء زوجة خائفة من الفضيحة أو مقهورة بفعل القهر الذي يمارسه زوحها مع نفسه ومع الخنازير، حتى مشاعر خوفها وتوترها من أن يراها أهل القرية عندما ألبست بافل ثياب امرأة وأخذته إلى الحديقة، لم تتوافق تعبيريًّا مع شغف واحتفاء بافل بالطبيعة خارج حظيرة الخنازير. لكن بالمجمل جاء العرض ممتعًا واستطاع إرسال أكثر من رسالة، أهمها برأيي إن المواجهة الحقيقة التي قدمها، هي تلك التي يعيشها الإنسان في مناطق كثيرة من هذا العالم، وتتمثل في خياري الحرب أو السجن، وأن ثمن التحرر منهما باهظ جدًّا، وهو أن تتحول إلى خنزير سواء عشت داخل الحظيرة أو عشت خارجها، فبنهاية العرض فتح بافل الباب لخنازير حظيرته وخرج معها كواحد منها.. لتعلن زوجته "رجل غبي قرر أن يكون خنزيرًا".