إن البساطة التي تدعيها كوميديا الموقف يمكن أن تكون وسيلة لتمرير الأفكار وتطوير المعايير المجتمعية، فكوميديا الموقف وفقًا للدكتورة فدوى ياقوت في كتابها "كوميديا الموقف.. الست كوم" لا تعكس فقط القيم السائدة والعلاقات المقبولة من المجتمع، ولكنها تعرض أيضًا صراع الأفكار في المجتمع، ولكن بمعالجة كوميدية، وبالتالي بأسلوب أقل عدائية. ورغم أن كوميديا الموقف هي تعليم لطيف وعجيب لمهارتين مهمتين: كيف تشاهد التلفزيون "المعرفة الوسائطية"، وكيف تعيش مع عائلة مع تكيف متسامح متبادل "مهارات حياتية"، إلا أن الاهتمام بذلك الدور النقدي/ التعليمي الذي تقوم به كوميديا الموقف للمجتمع ما زالت قليلة جدًّا، ومن هنا تأتي ضرورة هذه الدراسة الصادرة عن دار روافد متناولة كل ما يتعلق بنوع كوميديا الموقف جماليًّا وتاريخيًّا ودراميًّا. تقول ياقوت إن كوميديا الموقف، أو ما اعتيد تسميته ب"السيتكوم" يعتبر النوع الأكثرة شهرة في مجال التمثيليات التليفزيونية في أميركا، فهي الأكثر عددًا من حيث الإنتاج، وهي المهيمنة على فترات الذروة في جداول العرض اليومية والأسبوعية، هذا بالإضافة إلى تخصيص قنوات نوعية متخصصة في عرض هذا النوع من السلاسل الكوميدية. وقد عرفت الدراما التليفزيونية المصرية كوميديا الموقف مبكرًا في متنصف الستينيات، ورغم التجربة الأولى "عادات وتقاليد" التي لا تنسى، فإن كوميديا الموقف التلفيزيونية لم يتم التوسع في إنتاجها في مصر إلا مؤخرًا مع بدايات القرن الحادي والعشرين. وتوضح أنه ورغم أن الدراسات التلفزيونية انبثقت جزئيًّا من الدراسات السينمائية، فإن دراسات النوع التليفزيوني لم تصل إلى ذلك المستوى الذي بلغته الدراسات السينمائية، حيث ركزت أغلب الدراسات على دراسة الأنواع بغرض التصنيف اللازم لجداول العرض، ولم تصل إلى محاولة دراسة جماليات الأنواع التليفزيونية بمعزل عن سياقاتها الاجتماعية والسياسية. حيث يرجع هذا الأمر في اعتقادي للنظرة المتدنية نحو الوسيط بشكل عام، نظرًا للطبيعة التجارية التي تغلب عليه. فالتليفزيون نشأ من أجل الإعلانات التجارية على حد قول المسؤولين عن صناعة التليفزيون الأميركي، والبرامج والمسلسلات تم إنتاجها لكي تتخللها تلك الإعلانات. وتؤكد ياقوت أن هذه النظرة المتدنية نحو الوسيط تنسحب أيضًا على "كوميديا الموقف" بشكل خاص، حيث إن كوميديا الموقف يتظر إليها ك"نوع أدنى" من الثقافة، على حد وصف "كتاب الدراسات التليفزيونية"، وأنها رغم أهميتها فإنها معيار ثقافي ملتبس في ميثولوجيا الثقافة البريطانية الشعبية على حد قول ستيفن واج في كتابة "لأني أحكي نكته أو نكتتين، الاختلاف الكوميدي والسياسية والاجتماعي"، فكوميديا الموقف لا تدعي اهتمامها بالقضايا المصيرية، ولا تناقش المشاكل الكبرى في المجتمع، إنها ببساطة كوميديا تتناول المواقف اليومية التي قد يصادفها أي شخص، دون أن تتورط في طرح رؤى فلسفية أو وجهات نظر تحلل الموقف أو تبعاته. هذه البساطة أكبر إيجابيات وسلبيات هذا النوع من الكوميديا التليفزيونية، فهي ملائمة للجميع دون استثناء، ولا تتطلب مستوى ثقافيًّا معينًا، وهنا يكمن الجانب الإيجابي، لكن هذه البساطة على الجانب الآخر تبدو وكأنها محاولة للسير في الطرق الآمنة من حيث طرح الموضوعات والأفكار، وتجنب المخاطرة بأي شكل من الأشكال لخرق هذا النمط، حتى إن تطور صورة المرأة/ الأم/ الزوجة/ العزباء مثلًا استغرق عقودًا حتى لحق بالصورة الواقعية للمرأة في المجتمع. وتتوقف ياقوت عند المراحل التاريخية لتطور كوميديا الموقف، لافتة إلى أن كوميديا موقف "رحلة بينرايت" 1946 البريطانية كانت أول كوميديا موقف تليفزيونية على الإطلاق، وقد تبعتها كوميديات موقف التليفزيونية في كل الولاياتالمتحدة وبريطانيا، كانت أغلبها نسخًا تليفزيونية من كوميدات موقف إذاعية شهيرة. لم تكن العروض الأولى لكوميديا الموقف مميزة على مستوى البناء الدرامي بالقدر الكافي. لكن ما كان يميزها حقًّا، هو أنها كانت ترفيهًا خالصًا، والشيء الذي جعل العروض المبكرة مضحكة كان مصداقيتها المتأصلة، فالشخصية قابلة للوجود، والمواقف يمكن تصور وجودها، والمشاكل يمكن أن تحدث فعلًا، ومع بداية الخمسينيات بدأ العصر الذهبي لكوميديا الموقف، الذي تم فيه وضع أغلب القواعد المعروفة للنوع. كان الموسيقي ديزي ارناز وزوجته الممثلة لوسيل بال قد وفدا من الإذاعة، بعدما تم حذف برنامجها الإذاعي، وقدما السلسلة الرائدة في تاريخ كوميديا الموقف "أنا أحب لوسي"، التي أثرت وغيرت شكل كوميديا الموقف إلى الأبد. وهكذا امتلأت الخمسينيات بكوميديا الموقف حول الزواج والعائلة على غرار "أنا أحب لوسي" عاكسة عودة إلى حياة الأسرة العادية، ومن ثم الأدوار القياسية لجنس الزوج والزوجة. هذا بالإضافة إلى العروض التي كتبت ك"وعاء لنجم"، أو كوميديا الموقف التي كتبت حول مؤد كوميدي شهير في ذلك الحين، والذي كان محاطًا بزمرة صغيرة من الممثلين الكوميدين يلعبون أدوار أصدقائه أو أقربائه. وتضيف أنه بمجيء الستينيات بدأت كوميديا الموقف في تغيير موضوعاتها، حيث اتسمت باستبدالها موضوعات معرفة الخيال والسخرية بالموضوعات الواقعية المألوفة، ففي عام 1962 الذي يشار إليه بالعام الذي كسرت فيه كوميديا الموقف بشكل حقيقي النموذج الذي رسخت سلسلة "أنا أحب لوسي" بدأ عرض سلسلة "حثالة بفرلي" الذي استمر عرضه لتسعة أعوام، واحتل من أعلى 15 تصنيفًا على طول الفترة لتصنيفات نيلسون للبرامج الترفيهية. كانت "حثالة يبفرلي" تمثل استراحة بين اتجاهين شكَّلا تقاليد عائلة الطبقة الوسطى كنواة للعرض، فقد أخذ أسرة من الطبقة الدنيا، ووضعها محل الطبقة الأعلى. وبالإضافة إلى هذا النموذج المحير قدمت الستينيات أيضاً كوميديا الموقف التي يصفها ريتشارد تافلينجر بالهروبية مثل "جزيرة جيليجان"، وتحن إلى الماضي مثل "بوتانزا" والتي استحضرت الحاجة إلى الهروب من كابوس الانقلاب السياسي والاجتماعي الذي أطلقه اغتيال كينيدي، سامحة للتليفزيون أن يقدم للمشاهدين مع الأخبار السيئة طريقة للخروج إلى عالم أبسط من الخيالات الهروبية إلى حياة الغرب القديم، أو حياة آمنه في مدينة صغيرة. وتقول ياقوت إنه بمجيء السبعينيات بدأت حوادث العالم الواقعي في التسلل مرة أخرى إلى كوميديا الموقف الأميركية. فالتكوين العام للبرامج بدأ في التغيير من سكان الضواحي من الطبقة الوسطى إلى سكان المدن مختلطي العرقيات. فالبرامج مثل "آل جيفرسون" و"سانفورد والابن" و"أوقات جيدة" لا تقدم الضحك فقط، ولكنها تناولت أيضًا قضايا عنصرية. أما الثمانينيات فتعتبر الفترة الأكثر حرجًا في تاريخ كوميديا الموقف؛ حيث كانت هناك نبوءات قوية في عام 1984 بموت كوميديا الموقف على التلفزيون، لدرجة أن عام 1985 بوصف بأنه "العالم الأسوأ الذهبي للعائلة المثالية الذي وضعت سلسلة (أنا أحب لوسي)، وسارت على نهجه سلسلة "عرض كوسبي"، فقدمت نقيض هذا النموذج عبر اصطناع أسرة مختلة بقدر الإمكان، وبناء عليه فقد ولدت سلسلة "متزوج.. ولديه أطفال" كنقيض ل"عرض كوسبي"، ومليء بالتلميحات الجنسية، والضغينة العائلية، ومشاكل بلا حلول، ووالدين عاجزين وأبناء مستهترين. ثم تلاه "آل سيمبسون"، و"رأس هيرمان" و"ووبس"، وكلهم استكشاف للجانب المظلم من الطبيعة الإنسانية، لكنهم يفعلون ذلك دائمًا بشكل كوميدي. وفي التسعينيات تمكنت من أن تصور الفريق المدني والحياة الساخرة للمدينة الكبيرة، مركزة في الغالب على مجموعة من الأصدقاء. وزادت شعبية كوميديا الموقف الكارتونية بقيادة أطول مسلسل كوميديا موقف تلفزيوني على الإطلاق "آل سيمبسون" "المنتزه الجنوني"، و"رجل العائلة"، إلى العروض التي تعادل ببساطة الكارتون بممثلين أحياء مثل "ملك التل". وعن كوميديا الموقف في مصر، تقول ياقوت إنها عادت في التسعينيات على استحياء بعد توقفها لما يزيد على عشرين عامًا، بعد توقف إنتاج سلسلة "عادات وتقاليد" في أوائل السبعينيات. حيث تم في عام 1994 إنتاج سلسلة "يوميات ونيس ج1"، التي هي سلسلة كوميديا موقف عائلية قياسية، حول ونيس ومايسة اللذين يحاولان تنشئة أبنائهما الأربعة جهاد وعز الدين وشرف الدين وهدى تنشئة صالحة. كما تم في العام التالي إنتاج سلسلة كوميديا الموقف "ساكن قصادي"، من نوع كوميديا الفعل العائلي، التي تدور حول حياة كمال الحمراوي وزوجته سلوى وابنتهما ليلى وجارهم سيد الأخضر وزوجته أنيسة وابنهما حسن. حيث تناولت السلسلة قضايا الجيرة، وتعامل الجيران مع بعضهم البعض، بالإضافة إلى المفارقات الكوميدية التي تنشأ كنتيجة للخلفيات الثقافية المختلفة لشخصيات السلسلة، على غرار سلسلة "عادات وتقاليد". وقد تميزت كلتا السلسلتين بأنهما رغم التزامهما بالقالب الدرامي لكوميديا الموقف التقليدية، إلا أنهما كسلسلة "عادات وتقاليد" لم توظفا شريط الضحك، أو يتم تصويرهما في حضور الجمهور، حيث يبدو أن الذائقة العربية لم تستطع استساغة مقاطعة صوت الضحك للحدث والأثر المسرحي الناتج عنه. وترى ياقوت أنه بانتهاء القرن العشرين أصبح توظيف شريط الضحك والجمهور الحاضر في الاستوديو في كوميديا الموقف الأميركية نادرين، وتمت العودة إلى توظيف الكاميرا الواحدة في التصوير على غرار الأفلام السينمائية، وترتب على ذلك امتداد في المكان وسرعة في الإيقاع وحرية أكبر في السرد والانتقال بين الأزمنة السردية، كما اختلف شكل كوميديا الموقف المعاصر من حيث التحريب في السرد مثل سلسلة "مجتمع"، والجرأة في اختيار الموضوعات والشخصيات مثلما هو الحال في سلسلة "الأغبياء" أو "ويل وجريس"، أو "حشيش"، التي تدور حول ربة منزل عادية تضطرها الظروف لأن تتحول إلى مروجة مخدرات! لكن مع ذلك فقد حاولت أغلب سلاسل كوميديا الموقف الحديثة الحفاظ إلى حد ما على قدر من السمات الأصيلة لنوع كوميديا الموقف، حتى أن سلاسل كوميديا الموقف المصرية التي ظهرت بدءًا من 2002 مثل سلسلة "شباب أون لاين"، ثم "راجل وست ستات" 2006، حاول بعضها محاكاه كوميديا الموقف الأميركية الكلاسيكية على مستوى شكل الإنتاج وتوظيف شريط الضحك لأول مرة في كوميديا الموقف المصرية. وذلك جنبًا إلى جنب مع الشكل المعتاد في كوميديا الموقف المصرية، الذي لا يحبذ استخدام شريط الضحك وتأثيره. حيث يعتبر العقد الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين الفترة الذهيبة لإنتاج كوميديا الموقف المصرية منذ بداية ظهورها وحتى الآن. حيث تم اقتباس سلاسل كوميديا موقف غريبة بشكل حرفي مثل "شباب أو لاين" و"الباب في الباب" وثم استلهان ثيمات سلاسل أخرى بنكهة محلية مثل سلسلة "تامر وشوقية"، وتمت كتابة كوميديا موقف أصلية مثل "راجل وست ستات" و"العيادة". والواقع أن التغيرات التي طرأت على شكل كوميديا الموقف سواء الأميركية أو المصرية تمثل تغيرًا واضحًا في طبيعة الجمهور المتلقي أكثر منه في النوع التليفزيوني. حتى إنه يمكن القول إن ما تغير حقًّا هو المجتمع، وليس كوميديا الموقف. وتخلص ياقوت إلى القول بأن كوميديا الموقف ليست ذلك الشكل الأدنى من الفن أو الكوميديا، وليست كالكوميديا الهزلية أو التهريجية، بل إنها أحد أشكال تطور فن الكوميديا في عصر الوسائط الحديثة. فمع ظهور التليفزيون، كان لا بد من وجود فن تليفزيوني كوميدي الطابع، يقدم مادة فكاهية، تجتذب الجمهوري الذي لم يتعلق بعد بذلك الوسيط الجديد، ويقوم مقام تلك السلاسل الكوميدية الإذاعية التي سبق وتعلق بها الجمهور قبل ظهور التلفزيون. ونظرًا لطبيعية الوسيط، فإن هذه الطبيعة فرضت على كوميديا الموقف منذ البداية قواعدَ وقيودًا، سواء على مستوى شكل الإنتاج، أو على مستوى المحتوى. ورغم أن هذه القيود قد تبدو لنا اليوم سلاسل من فولاذ، فإنها ربما هي التي جعلت كوميديا الموقف لا تشبه أي مادة أخرى تقدم على التلفزيون، الأمر الذي أسس لهويتها، ورسخ قواعدها النوعية، وجعلها جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الشعبية لجمهور التلفزيون. وعلى الرغم من تكرار التنبؤات باختصار كوميديا الموقف واقتراب ساعتها، وانتهاء تلك البدعة، وملل الجمهور من متابعتها، خاصة مع تكلس الكثير من قواعدها الثابته، التي لا تتغير، فإن كوميديا الموقف عبر ما يزيد على سبعين عامًا -هي عمر كوميديا الموقف- لم تمت، ولم تتوقف.