أعرف أن الجمهور المصري والعربي تواق دائما للأخبار التعيسة لأنه تعود عليها أو لأنه دائما يشك في كل الأخبار السعيدة إما باعتبارها دعاية حكومية رخيصة أو أن في الموضوع خدعة بشكل أو بآخر وما أن تمر الأيام حتي ينكشف الغطاء حتي يظهر بوضوح أن ما كان يبدو سعيدا كان في حقيقته تعاسة صافية. ومن المؤكد أن صديقي الدكتور أسامة الغزالي حرب ينزعج بشدة من التنويه أو الإشارة إلي أخبار سعيدة من أي نوع لأن ذلك يهدد المقولة الرئيسية التي تقوم عليها فلسفة حزب الجبهة الديمقراطية وهي أن مصر تمر بأردأ عصورها وأزمنتها، ولا توجد لدي نية من أي نوع لكي أدمر حزبا ليبراليا بالقضاء علي فكرته الأساسية. وأعرف أيضا أن الحالة كما يقال "زفت" وسط أخبار أزمة اقتصادية عالمية، ويغطي عليها ويزيد فوقها كارثة غزة المزدوجة حيث العدوان الإسرائيلي الإجرامي الغاشم علي أهلنا في غزة بلا تمييز بين عسكري ومدني، ورجل وطفل؛ وحيث تقوم حماس بأسوأ إدارة لأزمة من أزمات الصراع العربي الإسرائيلي حتي أنها وجهت نيرانها السياسية لكي تجعل المعركة مع مصر حتي تجبرها علي وضع معبر رفح تحت وصاية حماس شخصيا وإلا فإن مصر سوف يصيبها كل أنواع التشهير من أول هجمات قناة الجزيرة السافلة، وحتي مظاهرات اقتحام القنصلية المصرية في عدن أو إلقاء الحجارة عليها في بيروت، وكل ذلك تحت الإشراف الدقيق لحركة الإخوان المسلمين في مصر وفلسطين !!. بالطبع فإنه لا يوجد أكثر من ذلك غم يكفي الدنيا بأسرها، ومع ذلك فإن واحدا من وظائف الكتاب أن تبحث عن الأمل في قلب اليأس، وبصيص النور في قلب الظلمة. والخبر السعيد هذه المرة هو أن السينما المصرية أنتجت هذا العام 47 فيلما حققت إيرادات بلغت 265 مليون جنيه بزيادة قدرها 15 مليون جنيه عن العام الماضي. وحتي تظهر أهمية الموضوع، وتقدير مدي السعادة في الخبر، فإن عودة إلي عقد التسعينيات من القرن الماضي تجعل الصورة أكثر وضوحا. فلا زلت أذكر ذلك اليوم الذي أتي فيه الزميل والصديق الغالي الدكتور محمد السيد سعيد- أعطاه الله الصحة والعافية- لكي يخبرني ملتاعا أن السينما المصرية دخلت مرحلة الانهيار وأن علي مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام أن يفعل شيئا في الموضوع. وبالطبع فقد كان علي مواساة العزيز محمد علي وفاة السينما المصرية، ولكن علي أيضا أن أسأل ما علاقة ذلك بنا في المركز خاصة أن هناك جهات أخري لا بد وأنها أقدر منا علي حضور الجنازة. وساعتها سمعت محاضرة لم أسمع مثلها حول أن السينما المصرية جزء مهم من "الأمن القومي المصري" لأنها واحدة من أدوات دور مصر الإقليمي، وأنها في يوم من الأيام كانت الثانية في صادرات مصر بعد القطن. ولأنه كان معلوما باستحالة إقناع محمد السيد سعيد بأمر مخالف لما يعتقد به فقد قررنا عقد ورشة عمل يحضرها خبراء السينما لبحث حالة اجتمع الجميع علي أنها تعدت مرحلة الاحتضار. وجري الاجتماع بالفعل واستمعنا إلي كل أمراض السينما المصرية، وساعتها عرفت أن مصر كانت تنتج خلال الثمانينيات قرابة 80 فيلما في العام وأن هذا العدد قد انحدر إلي 12 فيلما فقط، بل كان هناك من يصر علي احتساب فيلمين لأسباب فنية فصار العدد ثمانية فقط ولا غير. وكان معني ذلك عمليا إفلاسا لشركات الإنتاج، ونهاية لطابور طويل من الموهوبين في التصوير وكتاب السيناريو والحوار حتي نصل بالطبع إلي الممثلين والممثلات الذين هجروا الصناعة إلي مهن أخري ولم يبق منها إلا كل ما هو رديء. وكان معني ذلك عمليا أن يسيطر الفيلم الأجنبي علي الشاشة المصرية والعربية، وتخرج مصر من ساحة الثقافة كما خرجت من ساحة السياسة كما جري منذ الثمانينيات بعد عقد السلام مع إسرائيل؛ أو هكذا قيل وقتها. وبعد ذلك جري رصد الأسباب حول ما يحدث لصناعة السينما من أول إغلاق دور العرض حتي بات عدد دور السينما في مصر كلها التي بلغت 60 مليونا في ذلك الوقت 134 دارا للعرض فقط توجد منها حفنة محدودة للغاية يمكن أن يطلق عليها دارا للسينما، وحتي الضرائب علي دور "اللهو" التي كانت السينما من بينها، ومشكلات التصدير، والأدوار التي تقوم بها دول عربية بالإضافة إلي الأصولية الدينية في العمل علي تدمير صناعة السينما نظرا للدور الذي تقوم به في عملية "التنوير". وجري البعض بالقول أن هناك مؤامرة كاملة الأركان لضرب الثقافة المصرية لكي تحل محلها ثقافات دول عربية أخري، وضرب المثل بأن المسألة لم تعد صناعة السينما فقط بل أنه جري تجاوزها للتليفزيون الذي تقوده قناة الجزيرة، والكتاب، والإذاعة والشعر إلي آخر التعبيرات المعبرة عن جنازة حارة. وهكذا جرت المناقشات بحماس شديد وسط شعور عام بأن المريض صار في حالة متأخرة للغاية، ونشرنا نتائج ورشة العمل كما لو كانت الجنازة الأخيرة للسينما المصرية. ولكن شيئا ما جري بعد ذلك حيث جرت مراسم الجنازة في مواقع متعددة، ومن بعدها كما كان يجري في الميثولوجيا المصرية القديمة فإن عملية من عمليات البعث من جديد سارت في مسارها. وربما سوف تكون مهمة المتخصصين الكيفية التي تم بها بعث السينما المصرية، وكيف ارتفع عدد دور العرض في مصر لكي يتجاوز 400 دار عرض، وارتفعت الإيرادات الداخلية والخارجية، ومضي تجاوز الفيلم المصري مع الفيلم الأجنبي بحيث بدت الخصومة بينهما سخيفة بلا معني. وفي عام 2008 بلغ عدد الأفلام المعروضة في مصر 186 مقابل 141 عرضت في عام 2007 وارتفعت الإيرادات الكلية من 285 مليون جنيه في العام الماضي إلي 335 مليونا عند نهاية 2008 بزيادة كلية قدرها 50 مليون جنيه. وربما تكون علي هذه الأرقام ما يؤخذ عليها، فالفيلم المصري لم يعد من حيث العدد المنتج بعد إلي سابق عهده كما كان في الثمانينيات، ولا يزال الفيلم الأجنبي متفوقا علي الفيلم المصري وبفارق كبير. ولكن الأخبار السعيدة أن الإعلان عن وفاة الفيلم المصري كان مبالغة كبيرة، وأن جهدا خارقا من المنتجين والفنانين، والموهوبين في كل مجال قد نجحوا في بعث مريض اقترب من أن يكون جثة هامدة. ولكن أعظم ما في هذه المعلومات فهو وجود الجمهور نفسه وعودته إلي دور السينما مرة أخري، وهو جمهور لديه من القدرات الاقتصادية والمادية ما يجعله قادرا علي دفع أسعار تذاكر مرتفعة. وخلال العام الأخير جري إنشاء 20 دار عرض جديدة من بينها ثلاث ثمن التذكرة فيها 100 جنيه أما البقية فإن الثمن هو 12 جنيها وكلاهما يعمل بكفاءة اقتصادية عالية. سر هذه النهضة جري علي جانبي الطلب والعرض، وعندما كان هناك جمهور لديه القدرة علي الدفع- وهو ما يعني ارتفاع مستوي المعيشة للطبقة الوسطي المصرية التي يقال دائما عن انهيارها- فقد كان هناك استجابة من المنتجين لتقديم نوعيات مختلفة ومرنة من الأفلام، وكان لديها من الشجاعة لعملية تجديد عظمي في طاقم الفنانين المصريين. وما لا يقل أهمية عن ذلك أن الدولة نفسها رفعت مقتها وغضبها عن صناعة السينما، فجرت قوانين العرض والطلب فعلها السحري، فتم إحياء الموتي، وكان الله علي كل شيء قدير. بقي عامل آخر لا يحسب في العادة ضمن الأخبار السعيدة لصناعة السينما، وهو أن مصر تستعيد دورها الثقافي بالفعل مرة أخري عندما تم تحرير الثقافة في مصر. وفي وقت من الأوقات كانت قناة الجزيرة، ومن بعدها العربية، هي القنوات الوحيدة التي يلجأ إليها المصريون من النخبة والجمهور، ولكن ظهور القنوات المصرية الخاصة، وما قدمته من برامج مصرية خالصة أنهت سيطرة الجزيرة، وباتت البرامج الحوارية من "العاشرة مساء"، و"البيت بيتك"، و"تسعون دقيقة"، و"علي الهوا"، و" القاهرة اليوم"، و"الطبعة الأولي" هي التي تأخذ المتفرج والمشاهد المصري لساعات طويلة. ولم يكن ذلك ممكنا مرة أخري لولا عودة القطاع الخاص إلي قطاع الثقافة والمعرفة والإعلام بأشكاله المختلفة في الصحف والقنوات المستقلة، وكلها تقودها أجيال جديدة لم تعرفها مصر من قبل، وكانت كلها موجودة ومكبوتة داخل الصحف القومية والقنوات العامة. وتفاصيل ذلك قصة أخري علي أية حال.