من اغرب الكلمات الشائعة في الاونة الاخيرة " التمييز الايجابي" وقد اخترعها البعض لتبرير منح بعض الامتيازات لفئة دون الاخري، او لاضفاء الحماية علي فكرة محددة.. ظهر هذا المصطلح اساسا في وثائق الاممالمتحدة .. وبالطبع علي خلفيات سياسية، هدفها تبرير الانحياز، وتبرير الرغبة في دعم افكار بعينها، وفوق كل ذلك لاضفاء الحماية علي وسائل تخالف في جوهرها المباديء السامية التي استقرت في الضمير البشري لعهود وحقب طويلة. وفي مصر استخدم البعض مصطلح "التمييز الايجابي" لتبرير الدعوة الي والترويج لفكرة تخصيص كوتة" حصة" للمرأة في البرلمان بمجلسيه في الانتخابات العامة. ورغم سلامة النية والقصد من وراء هذه الدعوة، الا انها تفتح الباب للعديد من المشكلات المستقبلية، كما انها تؤكد ضعف انصار الاصلاح وعدم قدرتهم علي اختراق المجتمع فكريا وتطويره وانضاجه. ففكرة التمييز الايجابي تعني وبوضوح الانحياز الي فئة في المجتمع غير قادرة علي ممارسة حقوقها لاسباب عديدة في مقدمتها بالطبع العوامل الثقافية التي تعيق هذه الفئة عن المشاركة الايجابية والفعالة في قضايا الوطن. وبالطبع فإن المعوقات لايمكن ان ترقي الي المستوي القانوني بوجود نصوص تضع العراقيل امام هذه الفئة، كون النصوص القانونية واحدة من اسهل المعوقات التي يمكن ازاحتها باصدار نصوص بديلة.. وفي مسألة المرأة المصرية وممارسة حقوقها.. فالقوانين المصرية ومنذ حقب وعهود طويلة لم تمثل عائقا امام ممارسة المرأة لدورها في الحياة العامة، بل ربما كانت منظومة القوانين المصرية في هذا المقام الاكثر تقدما وطليعية من غيرها في بلدان العالم المتقدم. من هنا فإن مشكلة مشاركة المرأة المصرية في الحياة العامة وممارسة حقوقها لا تبدو أزمة قانون تمييزي او ممارسات دولة منهجية ومنظمة.. قدر ماهي سلوك اجتماعي ناتج عن ثقافة مجتمعية تغذيها افكار تقليدية متخلفة تحاصر المرأة وتمنعها من ممارسة حقوقها.. ووفقا للحادث فإن مشكلة مشاركة المرأة ليست من صنع القانون او الدولة، وانما من صنع المجتمع، وهنا لايمكن الاعتماد علي التغيير القسري والاصلاح الجراحي كوسيلة للتعامل مع قناعات مجتمعية سائدة، قدر مايجب البحث عن ادوات ووسائل قادرة علي تغيير الثقافة السائدة واصلاحها. ومن وجهة نظر الاصلاحيين فإن التدخل الجراحي مطلوب لاصلاح اوضاع ترسخت واصبح من الصعب التعامل معها باساليب تقليدية، ووجب التخلي القسري لفرض واقع جديد قادر علي فرض قيم ثقافية جديدة، تتيح خلق واقع افضل، يسمح مستقبلا بصياغة ثقافية مجتمعية مختلفة عن السائد حاليا. ويتناسي انصار هذا الاسلوب في الاصلاح ان الثقافة المجتمعية لايمكن تغييرها قسرا او بتدخل جراحي، وان امتلاك ادوات تحقيق فرض الاصلاح في مرحلة ما، يعني ان الاساس هو امتلاك الاداة وليس تحقيق الاصلاح، فضعف الاداة او تغيرها في مرحلة مستقبلية يعني تحكم الاخر في القرار وتغيير ما تم انجازه. ولعل تجربة " الكوتة" في عام 1979 نموذج لفشل فكرة التدخل الجراحي في الاصلاح، حتي ولو بالبحث عن تبريرات تبدو موضوعية. فقد فرضت فكرة حصة للمرأة في مقاعد البرلمان في الانتخابات آنذاك، وعندما الغت المحكمة الدستورية هذا التوجه لاسباب شكلية تتعلق بطريقة صدور القانون.. لم يجد المبدأ من يدافع عنه او يطالب باعادته باسلوب قانوني صحيح يتلافي الخطأ الاجرائي المسئول عن حكم الدستورية العليا. وهناك العديد من النماذج والامثلة التي يمكن ايرادها للحديث عن دور ثقافة المجتمع في خلق الواقع الموضوعي المؤهل لقبول الفكرة او رفضها.. كما ان هناك اسباباً عديدة يمكن ايرادها وراء تراجع دور المرأة ... لكن الاهم هنا هو الاشارة مايمكن ان يترتب من مخاطر عن التمسك بفكرة الكوتة. تجربة 1979 قابلة للتكرار وبسهولة شديدة، خصوصا وان الثقافة المجتمعية السائدة الان اكثر تراجعا مما كانت عليه قبل 29 عاما. كما ان قوة وعنفوان القوي التقليدية في المجتمع اكثر نفوذا وامتلاكا لادوات التشهير بالافكار الاصلاحية الاجتماعية استنادا علي مفاهيم دينية غير صحيحة لكنها اصبحت تشكل الاساس في المكون الثقافي الديني للمجتمع. ويفتح الحديث عن التمييز الايجابي لصالح فئات مظلومة مجتمعيا باب الحديث عن توسيع نطاقه علي فئات اخري تعاني من عدم التمكين لممارسة حقوقها لاسباب مجتمعية ايضا.. والصراحة تقتضي هنا الاشارة الي مشكلات مجتمعية امام مشاركة اوسع للاقباط في الشأن العام. اعلم جيدا وافهم الفارق الموضوعي بين ملفي المرأة والاقباط، وخصوصا مايتعلق بالفارق بين فئة اجتماعية تضم كل العناصر المشابهة بالمجتمع كما هو حال ملف المرأة، وبين جماعة دينية هي جزء من نسيج المجتمع ولا تتسم بمكونات خاصة.. لكن القاسم المشترك الاعظم بين الملفين هو المعوقات الناجمة عن سيادة ثقافة مجتمعية تمثل العائق الجوهري والاساسي في تمكينهما من ممارسة حقوقهما في المشاركة العامة. المسألة اذن ليست في فرض واقع قسري لتحقيق الاصلاح ولو مؤقتا، فالشعوب لاتتطور قسرا واجبارا، وانما الاصلاح هو وسيلة لبلوغ مرحلة اكثر تقدما، تقوم في اساسها علي القبول والاقتناع والرضا، وليس بالفرض والاجبار، الذي سرعان مايتراجع في اول بروز لواقع مختلف. انصار تمكين المرأة وتوسيع دائرة مشاركتها مطالبين بالبحث عن وسائل اكثر واقعية وقدرة علي ترسيخ المبدأ في ثقافة المجتمع حتي وان طال الزمن، ولكن بغرض تحقيق اصلاح موضوعي وحقيقي في المجتمع، ولنا في برنامج الاصلاح السياسي التدريجي قدوة ونموذج في تحقيق تطور متدرج قادر علي حماية نفسه بنفسه، وذلك بتحقيق التناسب بين حجم احتياج المجتمع للاصلاح وقدرته علي الاستيعاب الصحي للتطور. من هنا يمكن الحديث عن خطوات تحفيزية وليست تمييزية للوصول الي هدف تمكين المرأة من ممارسة حقوقها وتوسيع نطاق مشاركتها المجتمعية، فالاصلاح بالتحفيز يتيح مدي اوسع ومجالاً اكثر رحابة لمشاركة العديد من فئات المجتمع في دعم الفكرة. وفي جعبة البشرية العديد من الافكار الصالحة لتحقيق التطور والاصلاح، وخصوصا في جانب الاصلاح المجتمعي الذي يعد واحدا من اكثر الملفات صعوبة وتعقيدا، ومقاومة لفكر التطوير والتغيير. تعالوا نقرر منح الاحزاب امتيازات تحفيزية متعددة ومتنوعة اذا ما التزمت بمنح المرأة عدداً معيناً من مرشحيها في الانتخابات العامة.. او تعالوا الي اجراء الانتخابات بنظام القوائم النسبية الحزبية مع الزام الاحزاب بعدد معين من المقاعد للمرأة في كل قائمة مرشحة، او تعالوا نبحث فكرة " الكوتة الاختيارية" التي تتيح لكل حزب ترشيح عدد من النساء في الانتخابات العامة اختيارا وليس اجبارا، ونحن بذلك نحقق عدة اهداف برمية حجر واحدة، لتقوية الاحزاب وتوسيع نطاق المشاركة، وادماج المرأة في المجتمع، والاهم هو توسيع دائرة الحماية للمبدأ. ان اخلاء دوائر للمنافسة بين المرأة في الانتخابات يمثل خطورة ليست بالهينة علي اندماجها في المجتمع وقدرتها علي التعاطي مع مشكلاته والمنافسة في الملعب الطبيعي للتنافس بين الناس.. واخشي ان تكون بداية الطريق للانعزال، او بالبلدي " للاستسهال". هذه مجرد افكار اولية حول مخاطر متوقعة من وراء فكرة "الكوتة " ذات المقصد النبيل، لكن كم من النوايا الحسنة قادت اصحابها الي التهلكة، اثق في ان المجتمع قادر علي تصحيح نفسه بنفسه، وان التهلكة هنا لفظ صعب التحقق الا في لحظات تاريخية محددة، لكن من يدري، فمعظم النار من مستصغر البشر. ان الحديث عن تغيير في المكون الثقافي للمجتمع يجب التعامل معه بحذر شديد، فكل ملفات الاصلاح في جانب، اما الاصلاح المجتمعي في جانب اخر، وتمكين المرأة جزء من الاصلاح المجتمعي، وتعرضه للانتكاسة يعد خطرا جسيما علي برنامج الاصلاح، واختيار الطريق الاصعب اسهل بكثير من الطريق الاسهل، لان نتائجه مؤكدة ومصونة.. حازم منير