هنا التقط خيط الذكريات صديق رابع واتجه بنا الي مصري آخر كان يفضل ان يحيط نفسه في المكتب الحكومي الذي يديره بمجموعة من اللبنانيين والغريب ان عدد الموظفين في المكتب كانوا لا يزيدون عن ستة افراد " من المصريين" لكنه جلب اربعة لبنانيين اخرين يتولون قسم المحاسبة. جمعتني أمسية رمضانية بعدد من أصدقاء الغربة الباريسية الذين امضوا في القاهرة عدة ايام عاشوا فيها اجواء رمضان التي نشأنا عليها والتي يصعب كثيرا تكرارها في عاصمة النور.. صحيح ان هناك بعض الاحياء الشعبية التي لا يمكن تمييزها عن احيائنا الشعبية في مصر، الا ان الذكريات في الطفولة والصبا تظل تلح.. وهو السبب الذي من اجله رأي الاصدقاء ان يعيشوا رمضان المصري.. رافضين بل كارهين لرمضان الباريسي. وكما هي العادة اخذ الحديث يتطرق بنا الي احداث كثيرة منها الحلو، ومنها المر، ولكن - وربما دون ان ندري - توقف بنا حديث الذكريات عند نفور المصريين من بعضهم البعض، وتحكم نفر منهم في الغالبية العظمي من المغتربين وسعادة البعض بممارسة الاذلال علي العاملين معهم أو الموظفين المتعاونين معهم في المكاتب الادارية أو الحكومية أو الصحفية أو في الاعمال الحرة. واخذ كل منا يروي جانبا مما اختزنته ذاكرته من هذه الذكريات الصعبة والموجعة والتي تؤكد ان ما قاله شاعر النيل صحيح وهو ان المصري للمصري كطرفي المقص.. فتحدث احدنا عن مأساة الطالب المصري مصطفي مرجان الذي كان احد التلاميذ النجباء للراحل الدكتور لويس عوض وعمل معه في الملحق الثقافي بالاهرام وكانت احوال مصطفي قد تدهورت صحيا وماليا، وافترسه مرض السرطان الذي كان ينخر في عظامه الهشة اصلا كالسوس الي جانب امراض الربو والصدر والسكر.. وكان الراحل لطفي الخولي قد توسط لكي يكتب مصطفي بين حين وآخر في الطبعة الدولية للأهرام مقابل اجر متواضع يساعده وزوجته وولديه الصغيرين علي مواجهة الحياة.. وبعد ان صعدت روح مصطفي الي السماء لتنتهي اوجاعه الجسمانية والنفسية. كان الاقتراح ان يظل راتب مصطفي مستمرا مقابل ان تقوم زوجته - وهي من اصل لبناني - ببعض الاعمال الادارية في مكتب باريس وتوسط لطفي الخولي ثانية، وظلت السيدة تتصل في اليوم الواحد مثني وثلاث ورباع تسبقها دموعها ورغم نجاح لطفي الخولي في مسعاه وموافقة الادارة الا ان العقوق والنكران كان من نصيب زوجة مصطفي مرجان وأولاده. وعلق صاحبنا الذي يروي الواقعة قائلا : كان المسئول عن تسوية أو تعقيد مشكلة اسرة مصطفي مرجان يشعر بالنشوة وهو يتعمد ان يترك هذه الاسرة الفقيرة بلا دخل أو معين.. ناسيا ان مصطفي مرجان كان مثقفا من نوع فريد، لم يؤذ أحدا، مع انه تلقي علي يديه الاذلال والعذاب ألوانا.. والعجيب ان المكتب يفسح المجال لعدد من اللبنانيين والتوانسة يعملون في "البيت" والمكتب بأجور خيالية.. ولا يهم ان ماتت من الجوع أسرة مثقف مستنير مثل الراحل مصطفي مرجان. ويبدو ان هذه الحكاية قد اسالت لعاب أصدقاء الغربة، فانبري آخر يروي ان موظقا في احد المكاتب المصرية "في باريس" رأي في نفسه انه عبقري زمانه. ولانه كان مولعا بذاته، منتفخ الاوداج طوال الوقت، فلقد اغراه احد الازهريين بأن يكتب كتابا في اللغة ناسفا اياها في الاساس. والعجيب والمدهش ان هذا الموظف لم تكن له علاقة باللغة فكان يكتب التيار الاسلامي هكذا الطيار الاسلامي وعندما كنا نحاججه كان يصر علي رأيه مثل الاطفال الذين يتشبثون بألعابهم. ومن منطلق وهمه بأنه سيكون - في هذه الحالة - عالما لغويا كبيرا، مع ان دراسته لا علاقة لها باللغة لا من قريب ولا من بعيد.. اسرف في الغاء المثني، وحذف نون النسوة، وازالة جميع اشكال التنوين أو الحركات الإعرابية، فلا فاعل في اللغة، ولا مفعول.. ولا صفة، ولا حال.. انها كلمات مرصوصة وكفي.. واضاف صديقي - وهو استاذ حاليا بجامعة السوربون يقول إن الفيلسوف الجزائري محمد اركون لا يكف عن الضحك والسخرية من هذا الموظف ومن وقاحته التي جعلته يتجرأ علي لغة القرآن.. ولذلك يسميه بالنصف متعلم!! ويقول عنه انه شخص اجوف واهوج وساذج واراد ان يخلع جهالته علي اللغة العربية التي تخاصم كلماتها بعضها بعضا علي لسانه. واضاف صديق ثالث يقول: كان فيلسوفنا الراحل عبدالرحمن بدوي يسمي هذا الموظف بالطفل المدلل الذي ظل يتمسح "في الناصرية" صغيرا وشابا وعندما ضرب الشيب مفرقه، ذهب الي أعداء الناصرية متحمسا طالبا الغفران.. لكن اهم ما قاله عبدالرحمن بدوي ان هذا الموظف الذي عاش فترة من حياته في باريس ينتمي الي طبقة مقيتة تعرفها الحياة المصرية وهي الطبقة التي تشبه نبات"العليق" اذ تبحث دائما عن شخص أو حزب او اتجاه أو تجمع من أي نوع لترتدي قميصه ثم يكون كل دورها ان تقدم فروض الطاعة والولاء كالقرود. وهنا التقط خيط الذكريات صديق رابع واتجه بنا الي مصري آخر كان يفضل ان يحيط نفسه في المكتب الحكومي الذي يديره بمجموعة من اللبنانيين والغريب ان عدد الموظفين في المكتب كانوا لا يزيدون عن ستة افراد " من المصريين" لكنه جلب اربعة لبنانيين اخرين يتولون قسم المحاسبة. وفسر البعض ذلك بأن صاحبنا اياه لا يريد ان يدس المصريين انوفهم في الأمور المالية للمكتب الحكومي.. أو ربما لان هناك انشطة اخري غير معلنة يقوم بها.. لكن في كل الاحوال لم يكن مبررا ان يكون هناك اربعة من المحاسبين في مكتب يضم فقط ستة افراد. وهذا التفسير الاخير صاحبه هو أحد رجال الاعمال المصريين الذين يعملون بين باريس ومونتريال وواشنطن. وتحدث صديق باريسي خامس عن مهزلة جمع التبرعات من المصريين والعرب الذين يقيمون في باريس في عام 1992 وتحديدا عندما وقعت كارثة الزلزال. وروي - بقلب حزين - ان الاموال التي تم تجميعها ذهب اكثر من نصفها الي الممثلة سعاد حسني التي كانت تعيش في باريس في ذلك الوقت.. حيث اشتري لها احدهم - ممن كانوا ينصبون أنفسهم زعماء للجالية المصرية - فستانا لكي تحضر به الحفل الذي اقيم في احدي القاعات الكبري بمنظمة اليونسكو لاتاحة الفرصة امام جمع اكبر قدر من التبرعات. وهكذا تاجر هذا الشخص - الزعيم - باسم مصر، وبأوجاع المتضررين من الزلزال، وقدم التبرعات لسندريلا السينما المصرية "التي كانت" وليذهب ضحايا الزلزال الي الجحيم. وكان مسك الختام الحزين ما رواه رئيس اتحاد المبعوثين المصريين والذي لايزال يعيش في ضواحي باريس حتي اليوم عندما جاءت مجموعة من الفنانين والفنانات منهم من رحل ومنهن من ارتدت الحجاب.. كان ذلك عندما ضرب الاعصار بعض المناطق في صعيد مصر في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وكان الهدف ايضا هو حث المغتربين علي التبرع.. ثم كانت المفاجأة ان اعلن بعض هؤلاء الفنانين ان كلاً منهم قد سرق منه عشرة آلاف دولار من حجرته.. وكانت فضيحة استطاع احد رجال الأعمال العرب - صاحب الدعوة أصلا - ان يسيطر عليها عندما دفع لهم المبالغ الوهمية التي قيل انها ضاعت وسرقت من الفندق الكبير جدا في باريس. هي ذكريات مؤلمة تختزنها القلوب الحزينة لنماذج بشرية كان الناقد الراحل محمد مندور يسميها بديدان الأرض.