هي حرب لكن ليست بالطائرات أو الدبابات، وضحاياها ليست المنازل المهدمة أو الأجساد الممزقة، إنها حرب القلوب والعقول، والسلاح الأمضي فيها هو الإعلام وقذائفه الكلمة والصورة. فكيف انطبق ذلك علي ما تابعه الملايين عبر الفضائيات لوقائع العدوان الذي جري علي غزة طوال الأسبوع الماضي ولا تزال فصوله تتابع حتي الآن؟ تخلي الإعلام الإسرائيلي عن ما كان يردده من مفاهيم الليبرالية وحرية الرأي وما يتبعها من حيادية وموضوعية وتخندق خلف أجهزة الدعم والتوجيه المعنوي في الجيش، وقدم إعلاما غلبت عليه فنون الدعاية وألاعيب الحرب النفسية كما يقول الباحث الفلسطيني المتخصص في الشئون الإسرائيلية أنطوان شلحت.. وللبرهنة علي هذا الحكم يسوق أدلة متعددة، منها ما قامت به وسائل الإعلام الإسرائيلية من تمهيد للرأي العام الإسرائيلي والعالمي قبيل العدوان علي غزة والإيعاز بأن حدثا جللا ما سيحدث في الفترة القادمة ردا علي ما تزعمه من تهديدات لصواريخ القسام. وبعد اندلاع العمليات العسكرية غيب هذا الإعلام الصوت الآخر وأخفي صور من قتلتهم تلك العمليات من المدنيين والنساء والأطفال كما أخفي صور المناطق التي طالها القصف إلي حد بعيد وكأنهم -والوصف لشلحت- وقعوا نتيجة لهزة أرضية وليس لعدوان عسكري. ويلاحظ الباحث الفلسطيني أن الإعلاميين الإسرائيليين باتوا في حرج لأنه استحال عليهم إخفاء الحقيقة بسبب الوجود النشط للفضائيات العربية والمواقع العربية الجادة في قلب الحدث. أما الإعلام العربي فكان للمفكر الفلسطيني عزمي بشارة وجهة نظر في تناوله لوقائع العدوان علي غزة، حيث فرق بشارة بين الإعلام الرسمي العربي وغير الرسمي. فالأول كما قيمه بشارة تعامل في الأيام الأولي للعدوان علي غزة وفق الأجندة الرسمية لدوله التي تُصنف في محور الاعتدال العربي، فأهمل الحدث وتجنب تفصيلاته ولم يعطه الأولوية في صدارة النشرات الإخبارية ونظر إليه علي أنه حدث "عادي" اعتاد الشعب الفلسطيني مثله. أما الإعلام غير الرسمي فإنه علي الرغم من حرفيته وصدق نيته "انجر" تحت ثقل الضغط الإنساني لفظائع المشهد إلي التركيز علي البكاء والعويل والحصار والتجويع ورفع الصوت بالاستغاثة مما حوّل المسألة إلي "قضية إنسانية فقط"، وابتعد بها عن كونها قضية سياسية تسعي لتحرير الأرض واستعادة المقدسات والتخلص من الاحتلال. وخطورة ذلك من وجهة نظر بشارة تكمن في الإقناع بمعادلة طرفها الأول وقف المقاومة وإطلاق الصواريخ لأن تكلفتها عالية ومردودها السياسي ضعيف كما يروج لذلك الرئيس الفلسطيني محمود عباس مقابل -وهذا هو الطرف الثاني من المعادلة- وقف العمليات العسكرية وتخفيف المعاناة الإنسانية. ويلفت المفكر الفلسطيني النظر إلي "شَرَك" تنصبه إسرائيل للإعلام العربي المحترف الحسن النية، الذي يردد بترحاب ما تروجه بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية من فكرة التفاوض مع حماس في غزة مقابل وقف الصواريخ، موضحا أن ذلك من شأنه تثبيت وضع غزة في مخيلة الرأي العام العربي علي أنها كيان مستقل عن الضفة مما يعمق الشرخ الفلسطيني