يؤمن الرئيس بوش حسب المعتقدات الدوجماطيقية التي تسيطر عليه وعلي إدارته اليمينية حتي الساعة. ولأنه مبعوث العناية الإلهية لمطاردة الشر ومكافحة الأشرار فكل شيء متاح له حتي لو جعل من البيت الأبيض وزارة للحرب أو جستابو للرعب بحجة لا يبدو أنها ستفقد بريقها في الحال أو الاستقبال بالنسبة إليه اسمها التخويف المستمر من الإرهاب ومهما أدي ذلك إلي الاختصام من الحريات المدنية الأمريكية وكيفما شاء له أن يقلص من مساحة عمل السياسة والسياسيين لصالح فعاليات العسكر والعسكريين. والتساؤل ما الذي يدعو إلي فتح هذا الملف الذي لم يغلق بعد من جديد؟ في الأيام القليلة المنصرمة كان البيت الأبيض يشهد حدثا فريدا من نوعه فالجالس سعيدا في المكتب البيضاوي حسب المنطوق الفاتيكاني وقع أمرا رسميا يتعلق بالأمن الوطني يطلب فيه من الأجهزة الأمنية الأمريكية المختلفة إعداد خطط طوارئ للتصدي لأي هجوم ضد الحكومة الاتحادية والمثير في الأمر أن مهمة التنسيق بين هذه الخطط ستناط بالبيت الأبيض وهذه هي المرة الأولي في تاريخ الرئاسة الأمريكية أن يعهد إليها مباشرة بالإشراف علي ما هو من صميم الأجهزة الأمنية والاستخبارية فقبل إنشاء وزارة الأمن الداخلي كان الأمر منوطا علي الصعيد الداخلي بالمباحث الاتحادية FBI وبوكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA علي الصعيد الخارجي ناهيك عن الدور الخفي لعدد غير واضح المعالم من تلك الأجهزة وفي مقدمتها وكالة الأمن القومي NSA. والواضح للعيان من صيغة الأمر هو تعظيم احتمالات تعرض الولاياتالمتحدة لهجوم نووي أو عبر مواد نووية قذرة سيئة الإعداد أو هجوم كيمائي أو بيولوجي ويمكن الاستنتاج كذلك من الأمر الرئاسي الأحدث في سلسلة الإجراءات الموجهة لمكافحة الإرهاب والتي وقعها بوش منذ الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001 أن أي هجوم نووي يمكن أن يسبقه إنذار لا تتعدي مدته ساعات أو ربما حتي دقائق قبل انطلاقه وهو ما يحتم احتياطات أمنية بالغة التعقيد. وبين يدي المشهد تثور ثانية تساؤلات لعل أهمها ماذا وراء هذا الأمر الرئاسي؟ وما تبعاته علي الداخل الأمريكي ؟ وصولا إلي علامة الاستفهام الحائرة حتي الساعة حول جدوي تلك الأوامر والمحررات في مكافحة أي نية عند جماعة ما تود مهاجمة أمريكا. بادئ بدء يمكن القول أن توقيت إعلان الأمر في حد ذاته يثير الريبة والشكوك فواشنطن التي كانت تشهد استعلان زمن محاربة الإرهاب بقرارات رئاسية كانت تستمتع إلي تصريحات نائب الرئيس ديك تشيني من علي متن حاملة الطائرات "جون سي سستنيس" والتي تهدد فيها وتوعد إيران بمواجهة عسكرية لا ريب فيها إن هي مضت قدما في مخططاتها لتخصيب اليورانيوم ومن ثم الحصول علي سلاح دمار شامل. ولان إيران ترفض شكلا وموضوعا حديث وقف التخصيب فلا يبقي أمام واشنطن سوي الحل العسكري وهو الأمر الذي كان يهمس به من قبل في المخادع الإدارة الأمريكية واضحي الآن ينادي به من علي سطوح البنتاجون والوكالات الاستخبارية الأمريكية. فهل جاء الأمر الرئاسي ليواجه ما سوف تستجلبه الضربة القادمة سيما في ضوء الاحتمالات التي تذهب للقول بان إيران ستقوم بعمليات انتقام عنيفة للغاية سواء في ميادان المعركة أو حتي داخل الأراضي الأمريكية من خلال خلايا نائمة تابعة لها؟ سيناريو تذكيه تصريحات الأجهزة الأمنية الأمريكية في الفترة الأخيرة وبقوة وبخاصة في ظل تحذيرات جديدة قديمة أشار أليها مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية السابق جورج تينت ومفادها أن القاعدة موجودة في أمريكا وان التساؤل هو ليس هل ستضرب بل متي ستضرب في العمق الأمريكي ثانية ؟ فوبيا الإرهاب إلي أين تقود أمريكا؟ ويبقي النظر إلي تبعات توقيع الأمر علي الداخل الأمريكي ومدي تأثيره علي مساحة الحريات المدنية خاصة . وهنا يلحظ المراقب أن مفردات القرار الجديد تعود بالأمريكيين إلي المربع الأول للفوبيا المراد نشرها عمدا من خلال التلويح باحتمالية تعرض أي من المدن الأمريكية الكبري لتهديد كارثي وعليه فانه علي المواطن الأمريكي أن يتنازل طوعا وكرامة عما كفله له الدستور الأمريكي انطلاقا من فكرة خدمة الهدف الاستراتيجي الأكبر المتمثل في حرب بوش علي الإرهاب وهنا الخسارة الأكبر التي تضرب روح أمريكا في داخلها. في الرابع من يوليو من عام 1776 كان الدستور الأمريكي يولد وتولد معه أفكارا من عينة "أن الناس جميعها سواسية والله وهبهم حقوقاً معينة منها حق الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة". لكن ما ابعد الوصف بين ما كتبه الآباء المؤسسون وبين واقع حال الولاياتالمتحدة اليوم والذي يشابه كثيرا الفترة الممتدة من عام 1946 وحتي 1952 عندما امسك السيناتور جوزيف ماكارثي بعنق الديمقراطية الأمريكية بحجة محاربة الشيوعية فتطايرت لوائح المطلوبين وقد ورد يومها علي لوائح تلك الحقبة المظلمة في تاريخ أمريكا أسماء مثل دوايت ايزنهاور الذي صار بطلا قوميا وشارلي شابلن عنوان الفن الأمريكي واوبنهايمر أبو القنبلة النووية.... هل يعيد التاريخ نفسه من خلال بوشية معادلة لمكارثية القرن الماضي؟ يبدو أن ذلك كذلك والفارق الوحيد هو الحجة التي تغيرت من العداء للشيوعية إلي الخوف من الإرهاب. غير أن علامة الاستفهام الحائرة والمحيرة تبقي دون جواب شاف واف عن إمكانية إن تكون أوامر بوش الرئاسية وقرارته السنية حائلا وسدا ضد أي هجوم مستقبلي؟ وفي هذا السياق نقول بان أحدا لا ينكر علي أمريكا حقها في الدفاع الشرعي عن نفسها في كل آن وأين بما لا يتخطي الاعتداء علي السيادة القومية للدول الأخري وهذا ما أغفله تيار المحافظين الجدد عند بلورة مبدأ الحرب الاستباقية وبنفس المنطوق أيضا فان أحدا لم يقر تلك الخسائر في الأرواح التي نجمت عن ذلك الثلاثاء الأسود حتي إذا نحينا جانبا البحث في هوية من كان وراءه. غير أن الاستمرار في عسكرة السياسة وبشهادة رجال الانتلجنسيا الأمريكية أنفسهم ربما جاء ويجيء بنتيجة عكسية في الحرب المزعومة علي الإرهاب بأكثر مما أفاد ويفيد في مقاومة طاعون القرن الحادي والعشرين. يكتب زيجينو بريجنسكي حكيم أمريكا المعاصر ومستشاراها السابق للأمن القومي مقرا ومعترفا بان "الحرب علي الإرهاب" عبارة مكونة من ثلاث كلمات فقط لا غير لكنها أوجدت ثقافة خوف عامة في الولاياتالمتحدة والضرر الذي ألحقته بالديمقراطية الأمريكية لم يكن يخطر بالتأكيد علي بال هولاء المتعصبين الذين خططوا ونفذوا أحداث الحادي عشر من سبتمبر من داخل كهوفهم في أفغانستان. والحاصل أن الإشارة المستمرة للحرب علي الإرهاب تحقق بل يمكن القول أنها حققت بالفعل هدفا مهما بالنسبة لتلك الإدارة ألا وهو زرع ثقافة الخوف والخوف يغشي العقل فيجعل الأشياء تبدو أمامه غامضة وغير واضحة المعالم كما انه يضخم من العواطف ويكثفها ويجعل منها أداة طيعة في أيدي اليدماجوجيين الذين يمكنهم استخدامها من اجل حشد الرأي العام وراء السياسات التي يريدون ابتاعها وهذا ما تقوم به إدارة بوش اليوم. ليس هذا فقط بل إن نظرية تكافؤ الأضداد في الروح الأمريكية تستعلن في الأمر الرئاسي الأخير ففي حين تسعي الخطط الداخلية للوقاية من أي هجمات يقر المفتش العام السابق في وزارة الأمن الداخلي الأمريكية "كلارك اريفين" بان ما يجري في العراق له تأثير علي الداخل الأمريكي وانه لا امن ولا أمان داخلياً طالما بقيت أمريكا مكروهة علي الصعيد الدولي وحتي من اقرب الحلفاء وليس الأعداء. وربما لا يكون الأمر من قبيل الصدفة أن يواكب صدور تقرير وزارة الخارجية الأمريكية عن أنماط الإرهاب في العالم توقيع الأمر الرئاسي فالاثنان يهدفان إلي ترسيخ فكرة العدو الذي لا ينفك يتآمر لتدمير الشيطان الأعظم دون توقف تلك الإدارة علي وجه التحديد برهة لتتساءل تساؤل عميق وجوهري: لماذا هذا الاصرار؟ عوضا عن التساؤل السطحي الممجوج الذي أطلق من قبل لماذا يكرهوننا؟ ولعل في الإجابة الرصينة مادة كافية لمعرفة لماذا تخسر أمريكا في حربها ضد الإرهاب. هذا التساؤل المهم للغاية طرحته مجلة الفورين بوليسي الأمريكية ذائعة الصيت علي عدد من الخبراء الأمريكيين وفي مقدمتهم البروفيسورة آن ماري من جامعة برنستون والتي قالت إننا نخسر الحرب علي الإرهاب لأننا نتعامل مع الأعراض وليس مع السبب، إن اصرارنا علي إحلال الإسلام محل الشيوعية كعدو للغرب يغذي رؤية القاعدة للعالم مما يزيد من الدعم الذي يقدم لها ويدفع الكثيرين في نفس الوقت باتجاه التطرف. والشاهد أن الحرب علي الإرهاب كفكرة مجردة ضمن تجريد الأشياء تقع فلسفيا في نطاق القضايا الفاسدة فأنت في حربك علي الإرهاب أشبه ما يكون بمن يشن حربا علي فكرة الغضب لا علي البشر وعليه يصعب حصر مدي انتشار عدوي الغضب والكراهية اللتان تنميهما السياسات الأمريكية التي حولت أفغانستان والعراق إلي معامل تفريخ "للمحتجين بالعنف" الاسم العلمي البديل للفظة إرهابيين ذلك التعبير الهلامي. والشاهد أن بوش وفريق أدارته لديهم رؤية غير واقعية تماما بشان ما يمكنهم إنجازه باستخدام القوة العسكرية أو التهديد بها والقول الأخير بوجود تجميع للخطط يصب في يد الرئيس ليس حلا لمعضلة الخوف والتي أضحت اليوم نتاج لسياسات أمريكا الشبيهة بوجه الاله الروماني جانوس ذي الوجهين فأمريكا تبدي وجه القوة المطلقة والسلطة المطلقة والتي هي مفسدة مطلقة تارة ووجه الدبلوماسية البراجماتية المعهودة تارة ثانية. وطالما بقيت خيارات واشنطن تتراوح بين الوجيهين فإنها لن تبقي أبدا كما لم تكن إلا لماما "مدينة فوق جبل" تنير للجالسين في الظلمة بل تضحي قلعة للكراهية تستهدف من ألقاصي والداني ومعها ستبطل فاعليات الأمر الرئاسي البوشي الأخير وأي أمر رئاسي جديد.