نعلم أن الكرم من أبرز شيم الشخصية العربية. لكن أن يصل كرم العرب إلي أن يقتتلوا ويتحاربوا بالوكالة عن إسرائيل وتقف هي تفرك أيديها سعادة وهي تشاهد المذابح العربية العربية.. فهذا نوع من الكرم المرذول الذي يجعل الدنيا تشفق.. إن لم تضحك علينا. لقد ألفت إسرائيل من العرب الأجواد سلوكيات الكرم الحاتمي.. فهم طوال تاريخ صراعها معهم يقدمون لها الهدايا علي أطباق من الفضة أو الذهب الخالص. ولأنه من العيب أن تقدم هدايا وأنت تتوقع المثل ، فإن العرب دأبوا علي منح هداياهم دون أن ينتظروا أي مقابل.. أو حتي مجرد كلمات شكر من القائمين علي الدولة العبرية. ويكفي لإسرائيل أن تشعل شرارة أولي لفكرة أو قضية ما حتي ينطلق العرب من ساسة ومثقفين ومحللين يلوكون تلك العظمة، بعيدا عن الدسم.. وسرعان ما يشتبكون بين مؤيد ومعارض ثم يتشاتمون ويعادون ويتبادلون الاتهامات بالعمالة والخيانة. ويتوج كل ذلك بأن تتحرك ميليشيات كل فصيل لقتال الفصيل الآخر. ويكفي أن يطلق أي إسرائيلي، مسئولا كان أو غير مسئول، بالونة اختبار في شكل تصريح أو رأي فيلقي العرب كل قرب الماء التي تحملها ظهورهم ليتسابقوا عدوا ولهاثا وراء هذا السراب.. وحين تتضح الحقيقة يكيلون الاتهامات لبعضهم البعض: من الذي هرول ومن الذي شجع ومن الذي أيد.. ثم إذا عادوا إلي نقطة الانطلاق يجدون الماء قد تسرب في رمال الصحراء ولا جدوي من البحث عنه.. ويتأجج العداء بينهم ويتركون العدو ليبدأوا في قتال أنفسهم. ومنذ أن أعلنا أن السلام هو الخيار الوحيد وأدخلنا الطمأنينة في قلوب إسرائيل بأنه من الممكن أن تفعل ما شاءت فلا يمكن أن نعود إلي القتال انقسمت شراذم المقاومة وانحسر مدها فانسحبت من الساحة لتمارس أدوارها علي استحياء من بؤر متناثرة يسهل رصدها وحصارها والحد من تأثيرها. وتوالت المراحل في انحدار مؤسف إلي أن انسحبت إسرائيل تماما من الساحة ظاهريا وبدأت تكتفي بتأليب الأطراف وتحريك الدمي لتصب كل الألعاب في حصيلتها ويرتفع رصيدها الذي يتراكم سحبا من أرصدة العرب. وينتهي الأمر أخيرا إلي مواجهات عربية عربية وصراعات فلسطينية فلسطينية وكلها توغل في بحار الدم العربي. والقتال الشرس الذي تفجر مؤخرا بين الجيش النظامي اللبناني وجماعة فتح الإسلام الفلسطينية بشمال لبنان هو نذير شؤم جديد يؤكد علي أن العرب لم يستوعبوا الدرس ولم يفهموا أنهم أصبحوا خير منفذين لسياسة إسرائيل في المنطقة. أما الاقتتال بين فصائل منظمتي فتح وحماس فقد راح ضحيته شهداء فلسطينيون بعدد أكبر ممن سقطوا برصاص الإسرائيليين، وأصبحت إسرائيل معفاة تماما من مشقة تدمير المقاومة الفلسطينية حيث إن هذه المقاومة تأكل نفسها بنفسها وتستأصل شأفتها بأيدي أبنائها. وقد دخلت المقاومة الفلسطينية من قبل في صراعات دموية مع دول عربية سواء مع الأردن عام 1970 أو مع لبنان في الثمانينيات، فكانت هذه الأيام نقاطا سوداء في تاريخ العرب الحديث. لكن الجديد الآن ان أبناء الشعب الفلسطيني الواحد صاروا مثل الإخوة الأعداء يفتكون ببعضهم البعض فاصبحوا عملاء موضوعيين لإسرائيل. فأين نحن من الأيام التي كانت المقاومة الفلسطينية حلما يراود كل مصري وعربي لتحرير الأرض ؟ واليوم، أصبح العالم يدرك أن الدماء العربية رخيصة بالنسبة للعرب أنفسهم. أما إسرائيل فقد أقنعت العالم بأن دماء أبنائها غالية وأنها لا تقبل إهدارها وأن من يهدر دماء إسرائيلي واحد لابد أن يدفع الثمن غاليا حتي لا يعود إلي مثلها. فهي تقاتل قتالا شرسا لاسترداد رفات جنودها ومقاتليها وعندما تحصل عليها تقيم لها جنازات عسكرية تجعل الأحياء يدركون قيمتهم. ولأنها تضن بدماء جنودها فقد توصلت إسرائيل إلي صيغة مثلي وهي أن تجعل العرب يحاربون لصالحها بالوكالة. ونكون مخطئين لو تصورنا أن إسرائيل ليست بها خلافات داخلية وصراعات علي السلطة بل وتناحر بين وكراهية متأصلة بين الفصائل المختلفة التي تنتمي إلي أصول متباينة. ومن المؤكد أن هذه الخلافات تتفجر من حين لآخر ونسمع عنها من خلال الإعلام. لكنهم أبدا لا يصلون بخلافاتهم إلي حد الصدام الدامي. وعندما يتعلق الأمر بالمصلحة العليا لإسرائيل فإنهم يكتمون غيظهم ويجنبون خلافاتهم ويظهرون أمام العالم في صورة المجتمع المترابط المتجانس وهو عكس الواقع علي خط مستقيم. لماذا أدرك الإسرائيليون أن هناك مصلحة عليا مشتركة تعد خطا أحمر لا يمكن أن يتعداه طرف من الأطراف.. ولم نع نحن العرب هذه الحقيقة البديهية ؟ إنهم يتلاعبون بنا بعد أن درسوا آليات التفكير العربي التي تقوم علي القبلية والتخوين ومعاداة الإخوان علي حساب المصلحة الجماعية، وبعد أن تأكدوا من خلال تاريخ صراعهم مع العرب بأن هؤلاء جاهلون بقواعد اللعبة ولا يفقهون شيئا عن علم اسمه فن إدارة الصراع حيث تركوا المبادرات بين ايدي إسرائيل وجعلوها تتحكم في أجندة المواجهة وفقا لما تريد. وطالما أن الأحوال وصلت إلي هذه الدرجة المهينة فبوسع قادة إسرائيل أن يناموا قريري الأعين. فالمهمة الصعبة والهدف الاستراتيجي الذي وضعوه منذ إنشاء دولتهم ويسعون لتنفيذه أصبح يحققه العرب الكرماء دون أن يبذلوا هم أقل جهد، ودون أن تسيل دماء الجنود الإسرائيليين في ميادين القتال. وكم كنت أتمني أن يتحول العرب في حالة صراعهم مع إسرائيل من الكرم الحاتمي إلي البخل والتقتير.