منذ عامين تقريبا، وضعت علي مكتب كوفي عنان أمين عام الأممالمتحدة وقتها، مذكرة قدمها نائبه للشئون السياسية كيران بريندرجاست، يشير فيها إلي وجود " إحساس واضح بالانجراف نحو الفوضي" في منطقة الشرق الأوسط. ولم يكن ذلك سوي إنذار متأخر للغاية، فقد كان الإقليم قد دخل بالفعل إلي حالة تشبه "المتاهه" قبل أن تسيطر عليه بالفعل حالة من الفوضي غير المسبوقة، التي طرحت في ظلها احتمالات سيئة بالنسبة لمعظم دوله. والسؤال الآن هو هل يمكن السيطرة علي تلك الفوضي، والإجابة الآن أيضا هي أن الفوضي _ بحكم التعريف _ حالة لايمكن التحكم فيها، لكن لابد أن هناك ما يمكن فعله، ولو بمنطق الحد من الخسائر قبل أن تصل التطورات الحالية إلي نقطة اللاعودة. إن تعريف الفوضي ليس صعبا، فهناك نظرية مستقرة تشير إلي ملامح محددة لتلك الحالة، فالفكرة الأساسية هي أن كل شئ في العالم يمكن النظر إليه علي أنه " نظام" من الأطراف والتفاعلات التي يمكن تحديدها وتصور أنماط حركتها علي أسس منطقية، تتيح توقع السلوك والعمل علي أساس ذلك. وفقا لذلك، فإن أي نظام ابتدء من الإقليم والدولة وحتي الأسرة، مرورا بالنظم السياسية والأحزاب وجماعات المصالح والجيوش والشركات والعصابات، وحتي الشوارع، يمكن النظر إليها كنظام، يتضمن فاعلين تدور بينهم تفاعلات تشكل مع الوقت قواعد لعبة داخلية أو إقليمية تحكم سلوك أطراف النظام أهمها البقاء الذي يمثل الهدف الأساسي لكل النظم. المشكلة أن منطقة الشرق الأوسط كانت تفتقد في معظم الأحوال إلي تلك السمة "النظامية"، فقد كان الإقليم _ كما هو سائد _ يمثل دائما نموذجا لمنطقة توترات خطرة غير مستقرة تشهد صراعات مسلحة وسياسية مستمرة ذات أبعاد مركبة، تتسم بملامح تختلف عن معظم أقاليم العالم، بصورة لايمكن معها توقع ما يمكن أن يحدث فيه، فهو يحمل دائما احتمالات حدوث انفجارات دائمة وكأنه حقل ألغام. لقد شهدت تلك المنطقة خلال النصف الثاني من القرن العشرين (1945-2000) حوالي 145 حالة صراعية حادة، بينها 69 حالة صراعية إقليمية بين أطرافه، و 34 حالة صراعية بين تلك الأطراف وقوي خارجية، و 42 حالة صراعية داخل دول الإقليم، بما لا يقارن بأية منطقة أخري بما في ذلك إقليم آسيا _ المحيط الهادي الذي سمي في وقت ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية "حلقة النار". رغم ذلك، كان "الكود" الذي يستخدم عادة لوصف تلك الحالة المستعصية هو مصطلح "عدم الاستقرار"، الذي يتضمن داخله مستوي من القدرة علي السيطرة أو الاحتواء، وهو ما بدأ يتغير، فما يحدث منذ عام 2001 لايشير إلي مجرد وجود نظام غير مستقر، وإنما حالة من الانفلات ، أي أن النظام _ أو ما كان قد تبقي منه _ لم يعد نظاما، فقد استمرت الصراعات القديمة، وبدأت صراعات جديدة أكثر حدة في الظهور، ووصلت كثافة وتداخل الصراعات إلي حد أن كل شئ قد أصبح يرتبط بكل شئ في المنطقة، ولم يعد أحد قادرا علي حل مشكلة دون أن يفكر في حل مشكلة أخري ذات علاقة بها، والنتيجة حالة مؤقتة من الشلل. لكن الأهم أن كل الاحتمالات أصبحت مفتوحة بالنسبة لأية مشكلة أو لأية واقعة في المنطقة، "فإمكانية التوقع" التي تمثل سمة من سمات النظم الإقليمية أصبحت مفتقدة، بحكم تعدد الفاعلين داخل النظم وعدم وجود قواعد محددة للعبة أو فقدان الالتزام بها، علي نحو يجعل كل شئ ممكنًا في الشرق الأوسط، ويتيح مجالا واسعا للمفاجآت غير المتوقعة كل يوم. إن هذا الوضع يطرح بشكل مستمر احتمالات أسوأ حالة متصورة وليس أسوأ حالة ممكنة كما كان الأمر في الماضي، خاصة في ظل عدم القدرة علي السيطرة أو عدم وجود رادع، فالمنطقة تسير في اتجاه يبدو معه وكأن أي طرف يمكنه أن يقوم بما يريد القيام به، ولديه في كل الأحوال دوافعه وأسبابه وظروفه وفتاواه ومن يدعمونه. إن إحدي السمات المعروفة لكل النظم الإقليمية هي" الاعتماد المتبادل الذي يخلق مصالح مشتركة بين أطراف كل نظام، بما يرتبط بذلك من تحالفات وتفاهمات واتفاقات يمكن من خلالها السيطرة علي التفاعلات الرئيسية في الإقليم، وقد وصل انفصال المصالح بين الدول والجماعات إلي مدي يجعل _ مرة أخري - من توقع السلوك صعبا ويجعل من كل شئ ممكنا، أو يبدو كذلك، كما يجعل أيضا من إمكانية السيطرة المشتركة علي المشاكل متعذرة تماما، في ظل حالة استثنائية من عدم الثقة. إن العوامل الرئيسية التي قادت إلي هذا الوضع في الإقليم خلال الفترة الماضية، والتي لاتزال تأثيراتها مستمرة، تتمثل فيما يلي : أولا، وجود فاعلين دوليين يؤثرون بعنف في حركة النظام، فالولاياتالمتحدة لم تعد قوة دولية تتدخل في المنطقة وفقا لتصورات خاصة بتوازنات دولية، وإنما أشبه بدولة من دول المنطقة لديها مصالح إقليمية، تتعامل في إطارها مع أحداث يومية في جوارها. ثانيا، وجود فاعلين إقليميين، مثل إيران، يتدخلون في الشئون الداخلية لكل الدول التي يمكن التدخل في شئونها، ويعتقدون أن المنطقة قد ماتت، وأن عليهم ملء الفراغ المتخلف عن وفاة الدول القديمة، وأن من حقهم أن يتجاوزوا النظم السياسية إلي القوي الداخلية والشعوب ذاتها. ثالثا، تصدع في عدة نظم سياسية تبدو مظاهره في تقلص قوة الحكومات المركزية في ظل وجود فاعلين آخرين يحملون السلاح كما هو الحال في العراق والسودان والجزائر، أو ضعف هيبة الحكومة علي نحو يفقدها مستوي من الشرعية والتأثير علي الرأي العام. رابعا، انفلات شديد في التفاعلات الإقليمية، في اتجاه استخدام العنف أو التفكير في استخدامه كوسيلة أساسية للتأثير في توجهات الآخرين أو فرض الحلول أو المطالب بشكل منفرد، أو حتي لمجرد الانتقام، فلم تعد القوة وسيلة، ولم تعد التسويات السلمية خيارًا واضحًا. خامسا: انفجار واسع النطاق لحالة من التوتر الديني والمذهبي والطائفي الذي اتخذ كل الأشكال المتصورة بين أتباع الديانات أو المذاهب أو الأعراق أو الطوائف المختلفة، دون أن يبدو أن لتلك المسألة نهاية محددة. سادسا : قادة جدد في عدة دول عربية، أهمها العراق ولبنان وفلسطين، يديرون شئون دولهم بضيق أفق شديد، تمارس من خلاله اللعبة السياسية بدون أدني قدر من المسئولية، أو أدني حرص علي مايعتبر مصالح الدولة، ويغلبون مصالح ضيقة ترتبط بجماعة أو طائفة أو فكرة علي كل شئ، ويعتقدون أنهم مضطرون لما يقومون به. سابعا، رأي عام عابر للحدود حانق بشدة علي الوضع القائم في الإقليم، وعلي حكوماته، وتسوده مشاعر حادة من العداء للآخر وأحيانا الكراهية الصريحة، بصورة لم يعد ممكنا السيطرة عليها ببساطة، علي نحو يخلق احتمالات مستمرة للسلوكيات الحادة أو العشوائية. إن المدخل الوحيد المتبقي للحديث عن إمكانية السيطرة علي الفوضي، يرتبط بما بدأ يظهر منذ فترة في المنطقة من أن التفاعلات الجارية في عدة بؤر صراعية داخل الإقليم بدأت تحمل معها احتمالات جادة لحدوث مستوي شديد الخطورة من الفوضي، علي نحو يثير تلك الاحتمالات التي ترتبط بسيناريوهات أسوأ حالة. لقد بدأت بعض تلك السيناريوهات في التحقق بشكل ما، فقد كانت تلك الأوضاع السيئة تتمثل عادة في احتمالات حدوث حرب أهلية في العراق، واحتمالات حدوث صدام مسلح داخلي في الأراضي الفلسطينية بين فتح وحماس، واحتمالات تصاعد التوتر السياسي إلي حد يعيد التفكير في الهواجس القديمة بلبنان، ثم احتمالات وقوع حرب دولية - إقليمية جديدة بين الولاياتالمتحدةوإيران. إن مستوي ما من كل ذلك قد حدث، فقد تحول العراق إلي حقل قتل، وتم تجاوز كل القواعد التي كانت تعتبر أن دماء المواطنين حرام في فلسطين، ووصلت المسألة اللبنانية إلي حد سقط في إطاره قتلي، وتم في ظله " إغلاق الدولة"، ويتجه السودان نحو مشكلة أخري سيتم في ظلها استخدام كل الوسائل السيئة، ويتم حشد القوات علي نطاق واسع في الخليج استعدادا لشئ ما، إضافة إلي مايجري في مناطق أخري، لكن رغم كل ذلك لم تصل الأمور إلي نهايتها، وإذا حدث ذلك، ستشهد المنطقة بحورا من الدماء. إن بداية السيطرة علي الفوضي، أو إدارة الفوضي في المنطقة تبدأ من تلك المساحة، وهي منع وقوع مثل تلك السيناريوهات السيئة بأية طريقة، فالمسألة لاتتعلق بالتزامات قومية أو دوافع إنسانية، إذ أن نظرية الاواني المستطرقة ستعمل بصورة أو أخري لتجعل من مشكلة في العراق أو لبنان مشكلة سعودية، أو ستدفع بمشكلات فلسطين والسودان نحو حدود مصر، وبالتالي لايتعلق الأمر باختيارات وإنما ضرورات، تتطلب عملا مركزا لتجنب تحول الفوضي إلي كارثة.