استفاق الشعب اللبناني، وهو المعتاد علي العنف والمفاجآت، في 13 "يوليو" علي انباء حسب انها تعود الي ماض غابر. فالطائرات الحربية الإسرائيلية قصفت مطارهم الجديد، وهو جوهرة تاج إعمارهم بعد الحرب. والمطار هدف من أهداف اخري هي الأبنية التحتية. وزرعت الطائرات الموت والدمار علي نحو يفوق خراب غزة. وتذكر لبنانيون ذاك اليوم من شتاء 1968، يوم حطت مروحية تحمل فرقة كوماندوس اسرائيلية علي أرض المطار القديمة وفجر جنودها 13 طيارة مدنية هي معظم الأسطول الوطني. والذريعة هي ان احد الفلسطينيين اللذين قتلا اسرائيلياً في مطار أثينا، قدم من مخيم لاجئين فلسطينيين في لبنان، البلد المسالم والآمن يومذاك. وعصي علي اللبنانيين معني هذا الرد غير المناسب. ولكن الحادثة كانت علامة علي الكابوس الزاحف علي البلد. فأفضي صراع عسكري مع اسرائيل الي حرب أهلية عنيفة. ومنذ نهاية الاحتلال الإسرائيلي جنوب لبنان، في 2000، ارتاح البلد الضعيف من الفوضي التي تعم المنطقة، وتشده إليها. ولكن لبنان عاد فلبس، بين ليلة وضحاها، لبوس الدور الذي ناء به فوق ربع قرن من الزمن، وهو دور ساحة ملعونة لحروب الدول والقوي الأخري ولمطامح لاعبين إقليميين ومخططاتهم. ولم يغير غير هوية اللاعبين، فبعد 1968، كانت منظمات المقاومة الفلسطينية عدو اسرائيل داخل البلد. وحوّلته مركز قوة لها، ورأس حربة. وتحول الدور، بعدها الي "حزب الله". وهذا الحزب لبناني، وله وزراء ونواب في البرلمان، وعليه، يسع اسرائيل تحميل الحكومة اللبنانية المسئولية عن جندييها، ولا تقل إدانة الحكومة اللبنانية تفاهة عن إدانة محمود عباس عن اختطاف الجندي الإسرائيلي في غزة. ومثلما يبرم الإسلاميون قراراتهم المنفردة في فلسطين، لا يتواني "حزب الله" عن التصرف المنفرد الوقح في لبنان. والحزب دولة داخل الدولة، وساعده ميليشيا اقوي من الجيش اللبناني. وتحمل لبنانية "حزب الله" وضع جيشه في تصرف لبنان حامياً له. ولكن للحزب هوية ثانية، يشفعها برنامج وأمر مهمة مختلفين، وتدأب قيادة الحزب علي مصالحة الهوية الجهادية مع هويتها اللبنانية، ولكنها تقصر دون تبعات الجهاد العالمي، وطموحاته وولاءاته وواجباته ومستلزماته الإقليمية. وفلسطين هي المقصد. وأمين عام "حزب الله"، حسن نصر الله، يجهر ان مهمة الحزب لا تقتصر علي تحرير مزارع شبعا، آخر المناطق اللبنانية المحتلة، بل الإسهام في الصراع العربي - الإسرائيلي وإمالة كفته. ولم تنفك صلات "حزب الله" بنظرائه الفلسطينيين - الإسلاميين تقوي وتشتد، فهو يمدهم بالنصح والسلاح والتدريب والمساعدات. وإنجازه الأخير متوقع منذ زمن. ولا شك في ان نصر الله أعلن تبريراً لبنانياً هو الأسري اللبنانيون في السجون الإسرائيلية. ولكن الباعث الحقيقي هو الخراب الذي يعيثه الإسرائيليون في غزة، والتضامن مع الشعب المصابر. والطرفان الإقليميان الآخران، الي "حزب الله" هما سوريا وإيران. وعلي نحو ما لم يستشر "حزب الله" حكومة بلاده، لا يعقل ان يكون أقدم علي عمل علي هذا القدر من الجرأة والخطورة، من غير هاتين الحكومتين اللتين أجزلتا له العطاء. وإيران وسوريا تراقبان الوضع الفلسطيني المتدهور وتنظران إليه طريقاً الي برنامجهما الاستراتيجي والإيديولوجي. وتري ايرانفلسطين أولوية في السياسة الخارجية، وأداة صعودها الإقليمي. وبعد دعمها القديم "حزب الله" اصبحت ايران سند "حماس" كذلك. ومشعل، صاحب الكلمة الفصل في الجناح العسكري، هو من امر بأسر الجندي الإسرائيلي الشهر الماضي. وعملية "حزب الله" هي تتمة عملية "حماس" علي الأرجح. وجل ما يريده نظام سورية البعثي هو إقرار واشنطن بدوره الإقليمي، وتسديد ثمن خدماته في العراق، حيث واشنطن في مأزق. ولا ريب ان "حزب الله" قدّر ان الرد الإسرائيلي علي عمليته قد يفوق ردها في غزة بأشواط. فالأولي ضربة قاسية لما تسميه اسرائيل "قوة ردعها"، وتريد استعادتها. والثانية تملي رداً مضاعفاً. ولا ريب في ان "حزب الله" يدرك ان خطوته تعقّد وضعاً سياسياً، وتوترات طائفية لبنانية معقدة أصلاً. فتزيد التضارب بين الشيعة وبين الطوائف الأخري. وهذه تمقت الطريقة التي اقدم عليها "حزب الله" منفرداً، فأدخل البلاد في نفق الموت والدمار واليأس. وهو يدرك انه قرّب الشرق الأوسط من الفوضي الإقليمية التي تتهدده، ويهلل عرب كثر، ولاسيما الإسلاميون منهم، لأعمال "حزب الله"، مهما ادت إليه من عواقب. ويشجع هذه الأعمال، الفلسطينيون، ولا سيما من يقاتلون في غزة. وأما اسرائيل فهي تجني ثمار ما حصدته. واقتضي خروج اسرائيل من لبنان 18 عاماً، لقاء ثمن باهظ هو انتصار "حزب الله"، وبينما تحول اسرائيل، في غزة، "حماس" والإسلاميين الآخرين الي أعداء مستقبلاً تلقي نفسها فجأة في مواجهة مقلقة مع إرث وحشي من عدو الماضي.