منذ قرون، عُرفت المنطقة العربية بأسواق الشعر مثل سوق عكاظ، حيث يأتي الشعراء إلي السوق من كل صوب لإلقاء قصائدهم الجديدة، فلم تكن هناك طريقة أخري لنشر الإنتاج الأدبي إلا تلك المنتديات الشعرية. ومنذ سنوات قليلة، بدأ الاهتمام في المنطقة العربية بحضور مثل هذه الأسواق التي تهتم بالاقتصاد والسياسة والأمن بدلا من الشعر، ومعظمها كان يقوم علي تنظيمه شخصيات غربية من أوروبا ومن أهمها منتدي الاقتصاد العالمي في دافوس بسويسرا. وصار حضور منتديات دافوس موضة يحج إليها السياسيون والاقتصاديون العرب والشرق أوسطيون لمقابلة نظرائهم من البلاد الأخري في أجواء غير رسمية يختلط فيها العمل بالسياحة بالبيزنس بالترفيه. ولسبب ما كانت مثل هذه التظاهرات والمؤتمرات محلا لنقد الجيل القديم من السياسيين والكتاب الذين لا يرون فيها إلا نوعا من تضييع الوقت والمال، وأنها مجرد كلام في كلام، وما يُطرح فيها تكرار لما يردده السياسيون أنفسهم من قبل في بلادهم.. بمعني أنه لا شئ جديد ينتج من مثل هذه اللقاءات المظهرية. وفي الحقيقة من الصعب التعرف علي عالم اليوم مقارنة بعالم الأمس بدون الأخذ في الاعتبار تلك النوعية الخاصة من اللقاءات بين السياسيين ومتخذي القرار في كل المجالات المعروفة علي مستوي العالم. خلال القرن العشرين تورط العالم في حربين عالميتين، وحاول بعد الحرب العالمية الأولي أن يُنشئ عصبة للأمم في صورة منظمة للحد من التسلح ومنع الحرب وإدارة نقاش حول المشكلات الدولية لكن فشلت عصبة الأمم وانخرط العالم في حرب عالمية ثانية وأنشأ بعدها الأممالمتحدة التي عاصرت فترة الحرب الباردة وما بعدها. وتميزت الأممالمتحدة في سنواتها الأولي بأسلوب حاد في ممارسة الخطابة والإصرار علي أن تطرح بغريمك الأرض بالكلام بدلا من أن تقتله في ميدان القتال. واختلفت الأمور الآن في منتديات الأممالمتحدة، ولم يعد أحد يستخدم هذا الأسلوب الخطابي الساذج إلا قليل من العرب، وغلب علي الجميع البحث عن نقطة لقاء وتوازن وحل يُرضي معظم الأطراف كلما كان ذلك متاحا. لم تختف الحروب برغم ذلك، ومازال توازن القوي له احترامه، لكن شروراً كثيرة تم تجنبها في عالم تقوده تكنولوجيا الاتصالات والحوار وتقريب المسافات إلي حد بعيد. ولحسن الحظ نجح العالم حتي الآن في تجنب حرب عالمية ثالثة، لكن مازالت تحيط به مخاطر كثيرة لا يمكن اكتفاء شرها بدون حوار ولقاء. هناك مقولة اشتهرت منذ زمن بعيد تقول أن "الحرب أخطر من أن تُترك للجنرالات"، وكان المقصود بهذه العبارة إن المسئولية الحقيقية في إدارة الحرب يجب أن يتحملها السياسيون لأن الحرب أوسع كثيرا مما يجري في ميدان القتال. الطبعة الجديدة لتلك المقولة في القرن الحادي والعشرين أن "السياسة أخطر من أن تُترك للحكومات"..وهذا ما يرمز إليه بالتحديد منتدي دافوس الذي عُقد في شرم الشيخ وأمثاله من المنتديات الأخري الكثيرة غير الحكومية التي يذخر بها العالم الآن. مؤتمر دافوس عندما يعقد في سويسرا أو الأردن أو في مصر تقع مسئوليته علي عاتق جهات غير حكومية، ولا يقتصر حضوره علي الزعماء والوزراء، بل عادة ما يدفع الحاضرون فيه تكلفة هذا الحضور إلا إذا كُنت مقصودا بالدعوة للاستماع إلي رأيك أو خبرتك في شأن بعينه. ومع الوقت لم تعد اللقاءات الحكومية هي محط الأنظار والأضواء، فمن يحضرها قد جاء بحكم وظيفته وليس نجوميته الناتجة من إنجازاته الحقيقية، وتحول الاهتمام إلي مثل هذه اللقاءات المفتوحة التي يتجاور فيها الرسمي وغير الرسمي، والأعداء والأصدقاء، وتتفاعل فيها الآراء في حرية بدون قيود. مثل أي سوق يُمكن أن يعقد في منتديات دافوس صفقات، أو أن يكون اللقاء مناسبة لبدء صفقة يتم استكمالها بعد ذلك. كما أن عقد المنتدي في مكان معين أصبح دليلا علي عالمية هذا المكان وانفتاحه وقبول العالم به كموقع آمن. سويسرا ينطبق عليها ذلك بطبيعة الحال، لكن من الصعب تصور انعقاد مثل هذه المؤتمرات في طهران مثلا أو تل أبيب أو مثلهما من الأماكن المكبلة بأوضاع سياسية أو ايديولوجية. كان اختيار شرم الشيخ لعقد منتدي دافوس تأكيدا علي أنها مدينة مفتوحة آمنة للجميع برغم تعرضها والمناطق القريبة منها لعمليات إرهابية متتالية خلال الشهور الماضية، لذلك مثل عقد المنتدي فيها إصرار من الجماعة الدولية علي تأكيد مكانة وتاريخ شرم الشيخ كمدينة للسلام. من خلال جلسات المنتدي التقي عباس أبو مازن بشيمون بيريز وتسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية، ودخل عمرو موسي في مناظرة مع مساعد وزير الخارجية الأمريكي حول الشرق الأوسط، وشارك رؤساء وزراء وخبراء من مراكز الدراسات في جلسات حول الديمقراطية العربية، وتحدث رؤساء وزراء وحكومات من مصر وتركيا ولبنان وماليزيا عن علاقاتهم مع المجتمع المدني في حل المشاكل الاجتماعية والسياسية في بلادهم. مثل أي سوق تستطيع في منتدي دافوس بشرم الشيخ أن تعرض بضاعتك وآراءك ومواقفك وقدراتك بدون حرج. لكن من الصعب القول بالنسبة لمصر أنها كانت "نمرا" في مؤتمر شرم الشيخ أو نجما للحفل. مصر كانت في موقف الدفاع داخل المنتدي أكثر منها في موقف الهجوم. بشكل عام جاء المؤتمر في وقت بدت فيه مصر وسيناء تحت وطأة الإرهاب وليس في لحظة الانتصار عليه. لم تكن لمصر بضاعة جاهزة تطرح من خلالها خبرتها القديمة في هزيمة الإرهاب بل طرحت قبولها منطق التعايش معه تحت حجة أنه موجود في كل مكان. علي مستوي الإصلاح جاء المؤتمر في أعقاب الأزمة مع القضاة، بل يبدو أن الوصول إلي حل ما لهذه الأزمة كان وراءه رغبة ألا يُعقد المؤتمر ووسط القاهرة ملتهب بصدام مع إحدي دعائم النظام المصري لأسباب قد لا تشرف أحداً. أيضا تكلم رئيس الوزراء الدكتور نظيف عن التأني في خطوات الإصلاح السياسي ومعه بالقطع الإصلاح الاقتصادي لأن أحدا لن يفهم منطق الفصل بين الاثنين. وفي كل الأحوال لم تكن بضاعته من نوع "الإسراع في الإصلاح" وكل نوع له سعره في مثل هذه الأسواق فليس ثمن الإسراع مثل ثمن الإبطاء. عيب هذه النوعية من المنتديات - أو ميزتها في الحقيقة - أن من يأتي إليها يتمكن من أن يري ويسمع ويقيم تفاصيل كثيرة. مثل الليلة الكبيرة في رائعة صلاح جاهين، من يدخل المولد سوف يشاهد عالما بأكمله جاء يستعرض قدراته ويبيع بضاعته. الحضور في مؤتمر شرم الشيخ كانوا يعرفون جيدا قبل أن يأتوا أن الأحوال في عموم مصر ليست كأحوال شرم الشيخ المتألقة، فهناك مشاكل في التعليم والصحة والعمل، وأن مؤشرات مصر الاقتصادية والاجتماعية لا تتناسب مع مكانتها السياسية الكبيرة. المنتدي ليس مكانا للتفاوض، أو الوصول إلي حلول للمشاكل، ولكن للتعرف عليها واستشعار أفضل الطرق للاقتراب منها. من ناحية أخري هو مناسبة يخرج منها الجميع رابحا شيئا ما. وبالنسبة لتكاليف المؤتمر أتصور أن القطاع الخاص والإعلان والراعين يتحملون جزءا كبيرا منه. والمقصود بالقطاع الخاص ليس المصري فقط بل العالمي أيضا الذي لن يجد أفضل من مثل هذا الحضور ليعرض نفسه عليه. وعلي عكس الماضي لم تعد مثل هذه المناسبات عبئا علي الدول بل لم تعد عبئا علي أحد بل فرصة للجميع..مثل كل الموالد والأسواق.