تفيد التصريحات الإسرائيلية ان برنامج كاديما، الخاص بإعادة الانتشار في الضفة الفلسطينية، وضم ما يقارب نصفها الي إسرائيل، وتحويل الباقي الي معازل، منفصلة عن بعضها بعضاً... قد صار برنامجاً مركزياً، تلتف حوله مجموعة من الأحزاب الأخري بما فيها حزب العمل. ومما لا شك فيه أن فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية وتشكيلها الحكومة، قد وضع هذه الأحزاب أمام حالة سياسية مسدودة الأفق، شعارها الافتقاد لشريك فلسطيني في العملية التفاوضية، لذلك يمكن القول إن الانتخابات الإسرائيلية أعطت زخماً لقوي "الوسط" ممثلاً بكاديما والعمل، اللذين بإمكانهما أن يشكلا أساساً متيناً لائتلاف حكومي، يملك من الحيوية السياسية ما يمكنه من اجتذاب قوي أخري الي جانبه. فحزب شاس، علي سبيل المثال، الباحث دوماً عن مصالحه الفئوية من البقرة الحلوب المسماة "الدولة"، لن يجد صعوبة في الموافقة علي خطة "الانكفاء" وإصدار فتاوي بشأنها تبرر له الدخول في الائتلاف الحكومي. كذلك لا يستبعد المراقبون أن ينضم حزب يهودوت هتوراه، الذي لن يجد لنفسه مصلحة في الوقوف في الظل، في وقت تتسع فيه القناعة الراسخة باستحالة التمسك بالضفة الفلسطينية كاملة، أي ما يسمي أرض اسرائيل الكبري، تحت ضغط الأوضاع الأمنية واحتمالات التوازنات الديموغرافية المختلفة لغير صالح اليهود. إن مثل هذا الائتلاف بإمكانه أن يشكل مناخاً مناسباً لاجتذاب حزب ميرتس، الذي لن يجد مكانه في ائتلاف اليمين واليمين المتطرف (الليكود وليبرمان). وإذا ما نجح أولمرت عبر وسيطه النشيط لشئون الائتلاف حاييم رامون أن يوفر لقائمة "المتقاعدين" ضمانات بتلبية الجزء الأهم من مطالبهم فإن الائتلاف سيزداد اتساعاً وقوة ورسوخاً. فالمتقاعدون لا يشكلون أساساً اجتماعياً لحزب سياسي بقدر ما يشكلون كتلة برلمانية ذات مصالح اجتماعية، تعتبر بالنسبة لها دوافع كافية لدخول الحكومة. فالحكومة هي المعنية بتلبية هذه المطالب، والضغط علي الحكومة من داخلها، أجدي من الضغط عليها من خارجها، خاصة إذا ما نشأت معارضة ضعيفة، يشكو طرفها الأبرز، أي الليكود، من حالة انهيار في صفوفه. نحن إذن امام مشروع ائتلاف قوي ستكون له انعكاساته علي الوسط الفلسطيني داخل اسرائيل، وعلي العلاقة مع السلطة الفلسطينية، ومجمل الحالة السياسية في المنطقة. إذ رغم التقدم الذي حققته الأحزاب العربية في حصتها في الكنيست، إلا أن الائتلاف الواسع المرشح لأن تستند اليه حكومة أولمرت، سوف يهمش هذه الأحزاب، وستتحول الي أحزاب للمشاغبة داخل الكنيست، دون أن يكون بمقدورها ان تلعب الدور الذي كانت لعبته في زمن حكومة رابين (ذات الأقلية اليهودية) حين وفرت لها شبكة أمان ضد سحب الثقة منها علي يد الأحزاب المعارضة، مقابل الضغط عليها لتليين موقفها في تطبيق اتفاق أوسلو مع الجانب الفلسطيني، واستجابة للمطالب الاجتماعية للوسط الفلسطيني داخل إسرائيل. أما في العلاقة مع الضفة، والقطاع، فلعل، الصدفة السياسية أرادت أن تلعب دوراً في صناعة الحدث وتسليط الضوء عليه. إذ وقعت الانتخابات الاسرائيلية في اليوم الذي نالت فيه حكومة اسماعيل هنية ثقة المجلس التشريعي. لكن الحدثين حملا في طياتهما مفارقة مهمة، حيث في الوقت الذي سيعمل فيه الإسرائيليون علي بناء ائتلاف حكومي موسع، يستند الي برنامج واضح وذي آليات لتنفيذه، يعزز من الدور السياسي للحكومة وتحركاتها، قامت في المناطق الفلسطينية حكومة من لون واحد، نجحت في أن توفر لنفسها غطاءً قانونياً بأكثرية برلمانية مريحة، لكنها فشلت في الوقت نفسه في توفير الغطاء السياسي من باقي الكتل البرلمانية، وبما يساعدها علي تجييش كل الطاقات السياسية الفلسطينية في مواجهة استحقاقات المرحلة القادمة. وقد بادرت اسرائيل الي استغلال هذه الحالة فأعلنت موقفاً جديداً حذرت فيه السلطة الفلسطينية بأنها ستتحول، بعد أداء حكومة حماس لليمين الدستورية، الي "كيان إرهابي". وهذا يعني استهداف هذا "الكيان" بسلسلة من الإجراءات السياسية والاقتصادية الرامية الي الضغط علي الوضع الفلسطيني لإضعافه، ولتبرير سياسة الاجراءات الأحادية المنوي إتباعها في الضفة الفلسطينية. ولنا أن نعترف أنه كلما جري إضعاف للوضع الفلسطيني وعزله دولياً، كلما تمتعت إسرائيل بعناصر جديدة للقوة وكلما زاد المجتمع الدولي انفتاحاً عليها. ان تستفيد كثيراً من المواقف السلبية للجنة الرباعية إزاء حكومة حماس، ومن حالة التشتت التي سيعيشها الوضع الفلسطيني، في ظل حكومة من لون واحد، وفي مواجهة معارضة غير مؤتلفة في ما بينها. في كل الأحوال، تشكل الانتخابات الإسرائيلية بداية لمرحلة سياسية جديدة، سيتوقف خلالها علي الأداء السياسي الفلسطيني مصير مستقبل الضفة الفلسطينية، وفي سياق ذلك مستقبل المشروع الوطني برمته، فهل يخرج الفلسطينيون بالدروس الضرورية لصالح إعادة النظر بالحالة السائدة، وإعادة ترتيب الأوضاع علي ضوء المستجد إسرائيلياً، أم أن نشوة حماس في وصولها الي السلطة ستحول دون ذلك؟