اكتسب كتاب "صراع الحضارات" للمفكر الأمريكي الشهير صمويل هنتنجتون شعبية هائلة، ووجد البعض في التوتر الذي شاب العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي منذ الحادي عشر من سبتمبر دليلا علي صحة التحليل الذي ذهب إليه هنتنجتون. وبغض النظر عن الأخطاء الشائعة في الفهم الشعبي للأفكار التي أوردها صمويل هنتنجتون في كتابه، فإن القول بصراع الحضارات لا يختصر كافة جوانب التوتر الدائر الآن في العالم، بل إن بعضا من أهم جوانب هذا التوتر تبدو غائبة تماما عن القائلين بصراع الحضارات. فالجانب الأكثر سخونة وحدة من الصراع الدائر اليوم لا يجري بين الحضارات، وإنما يجري داخل الحضارة الواحدة، وخاصة داخل الحضارة الإسلامية، ولعل الصراع الذي نشب بين أنصار الداعية الشاب عمرو خالد والدكتور يوسف القرضاوي حول المبادرة التي دعا لها عمرو خالد لفتح حوار بين شباب من العالم الإسلامي وآخرين من الدانمرك يجسد هذه الحالة. فلعمرو خالد ومعه مجموعة كبيرة من الدعاة الإسلاميين منهجهم القائم علي الاعتدال والانفتاح علي العالم والدعوة للبناء والتنمية وتجنب العنف والمواجهة. ويري هؤلاء أن انعزال المسلمين عن العالم فيه إضعاف لهم، وأن التقدم والبناء والتنمية هو الطريق لتمكين المسلمين من العيش بعزة في هذا العالم، وأن التعاون بين المسلمين وغيرهم هو الطريق لتمكين المسلمين من بناء مجتمعاتهم. غير أن هذا النهج الذي يعبر عنه عمرو خالد وأمثاله يمثل النقيض لنهج آخر يري الإسلام علي طرف نقيض مع الغرب، ويري أن الانفتاح علي الغرب يمثل المصدر الأساسي لتهديد القيم الإسلامية، وأن الصراع مع الغرب أمر إيجابي لأن تأجيج الصراع يسمح بإظهار الفوارق بين الثقافتين وتحديد التخوم بينهما، كما يدفع المسلمين للاصطفاف وتحقيق الوحدة، وهي أهم ما يحتاجون إليه. الخلاف بين المنهجين، وكليهما محسوب علي الإسلام، هو السبب وراء هذا الصراع الذي نشب منذ أطلق عمرو خالد دعوته التي أسماها "سفراء الشباب"، حتي أننا رأينا أنصار التشدد يطلقون علي خصومهم أوصافا كانت في الماضي محجوزة لآخرين من ليبراليين وشيوعيين وغيرهم. فبينما ذهب البعض إلي وصف عمرو خالد بالسعي لتحقيق مجد شخصي، وصفه البعض الآخر بالارتماء في أحضان الحكومة الدانمركية، بينما وصفه بعض ثالث بالعمالة للغرب. وكما هي العادة في مثل هذه المواقف فإن بعض الناطقين باسم التيار الأكثر تشددا استطاعوا أن يروا في الأزمة الدانمركية مظاهر للخير القادم لأنها جعلت القرآن الكريم من أكثر الكتب رواجا في الغرب، وهو نفس الرأي الذي سبق لنا وسمعناه في أعقاب هجمات الإرهاب في الحادي عشر من سبتمبر. ومع أن كل الشواهد تدل علي أن 11 سبتمبر لم يأت بأي خير للإسلام والمسلمين، فإن البعض من الراغبين في الصراع والذين يرون في غيابه علامة مرضية تدل علي خنوع الأمة وخور عزيمتها لم يتورعوا عن تكرار الرأي نفسه بمناسبة الأزمة الدانمركية. التيار الذي يعبر عنه عمرو خالد وآخرون يريد للأزمة الدانمركية أن تنته بسرعة حتي يكف المسلمون عن الانشغال بمعارك لا تفيد قضية البناء التي يجب لها أن تشغلهم أكثر من أي قضية أخري، بينما التيار الآخر يريد لهذه الأزمة أن تطول لأن الصراع وحده _في رأيهم- هو البيئة الأكثر ملاءمة لاستعادة مجد الإسلام ورفعته. وفي مثل هذه الصراعات ينفتح الباب لآخرين لهم مصالحهم الخاصة، فقد انضم رؤساء بعض الجمعيات الإسلامية في الدانمرك لخصوم عمرو خالد لما اعتبروه تجاهلا منه لهم، ولما كرهوه في محاولته الدخول للدانمرك عبر بوابة أخري غير بوابتهم، لما في ذلك من تهديد لمكانتهم كممثلين وحيدين للإسلام في بلاد الغربة الدانمركية. ظاهرة الصراع داخل الحضارة الإسلامية ليست بجديدة، فبغض النظر عن الانقسامات والصراعات التي عرفها التاريخ الإسلامي القديم منذ الفتنة الكبري وصراعات الأسر الحاكمة من المماليك للعباسيين، ومن العباسيين للسلاجقة، ومن السلاجقة للفاطميين، ومن الفاطميين للأيوبيين، ومن الأيوبيين للماليك، وأخيرا من المماليك للعثمانيين، بغض النظر عن هذه الصراعات التي صنعت في تتابعها القسم الأكبر من التاريخ الإسلامي، فإنه منذ تعرف المسلمين علي الحضارة الحديثة وقع الانقسام بينهم بشأن الطريقة التي يجب بها التعامل مع هذا الوافد الغريب. وتاريخيا انقسم المسلمون بين مجددين يريدون الاقتباس عن النموذج الغربي، وآخرون رأوا في القادم من الغرب خطرا محدقا. هكذا كان الانقسام والصراع بين أبناء المجتمعات الإسلامية طوال القرنين الماضيين، إنه الصراع بين الطهطاوي ولطفي السيد وقاسم أمين وسعد زغلول وطه حسين من جهة، ورشيد رضا وحسن البنا ومحمود شاكر وأنور الجندي من ناحية أخري. وعبر الصراع بين هذين التيارين جرت كتابة تاريخ المجتمعات الإسلامية خلال القرنين الماضيين. الصراع الراهن بين أنصار عمرو خالد وأنصار يوسف القرضاوي هو امتداد لهذا الصراع نفسه. لكن الجديد في هذا الصراع أنه بات يجري في هذه المرحلة بين ممثلين غير مشكوك في انتماء أي منهم للحضارة والثقافة الإسلامية، فكلاهما يبدو ممثلا ذو مصداقية للثقافة الإسلامية. فبينما جري تصوير الانقسام في المجتمعات الإسلامية سابقا علي أنه انقسام بين متغربين يريدون الانخلاع من تراثهم وثقافتهم الأصلية، فإن هذا التصوير لم يعد ممكنا في هذه المرحلة. فبعد أن نجح التيار الإسلامي في تثبيت نفسه باعتباره التيار الثقافي السائد في مجتمعاتنا، لم تعد عوامل الوحدة التي حافظت علي انتظام صفوف تيار شعر أنصاره بالتهديد في مرحلة سابقة تمارس أثرها، وباتت عوامل الانقسام أكثر عمقا حتي داخل هذا التيار نفسه. ومع هذا فإن جوهر الانقسام السابق هو نفسه لم يتغير، فهو نفس الانقسام الذي ميز المجتمعات الإسلامية طوال قرنين، بين أنصار الانفتاح علي العالم والتعاون معه والاندماج فيه من ناحية، وأنصار الانغلاق والصراع معه والعزلة عنه من ناحية أخري. فالانقسام حول هذه القضية جد حقيقي، ولن تخفيه وحدة الرايات التي يرفعها أنصار الفريقين، وأظن أن مجتمعاتنا الإسلامية سوف تظل تراوح في مكانها حتي يحسم التيار الرئيسي فيها موقفا من هذه القضية، أو حتي يجد أنصار التيارين طريقة تختلف عن التخوين والاتهام بالعمالة للتعبير عن خلافاتهم.