إبننا العزيز، عمّورة.. المعروف بين الناس بإسم عمرو أديب، هو واحد من أنجح مقدمي البرامج التليفزيونية علي الساحة العربية، ولابد من الاعتراف أنه أرغم بعض الناس وأنا منهم، علي العودة مبكرا إلي البيت ليعرفوا ويستمتعوا بمشاهدة ما حدث في القاهرة اليوم. وإذا كان الأخ الأكبر عماد أديب صاحب مدرسة في الإعلام التليفزيوني يمكن وصفها بأنها مدرسة الصوت الخافت والقضايا الكبري، وإذا كان يتعامل مع الأمور بغير انفعال وبغير تدخل منه ليفرض رأيا أو وجهة نظر، وإذا كان يلعب دور العقل الناقد الهادئ، إلا أن عمّورة أفلت من هذه المدرسة واتخذ لنفسه طريقا آخر لا يتنكر فيه لدور العقل بل يغلب عليه أحاسيس القلب تاركا نفسه علي سجيتها كطفل يتسم بالعذوبة والشقاوة. عمّورة أيضا يمارس دوره ويلعب لعبته وهو علي وعي بأن بقية مقدمي البرامج أو معظمهم يلجأون لكليشيهات متكلفة وربما كاذبة ، لذلك تراه يسخر منهم وذلك عندما يقول: المفروض أن يقول هنا المذيع.... ثم يقول إحدي هذه الكليشيهات التي لا يؤمن بصحتها. لست أنصح عمّورة بشئ، ولا أطلب منه أن يستمع لنصح أحد من جيلي، فمن المؤكد أن هذا الطفل العجوز، وثقته بحدسه الإنساني وحسه الفني تضيئان له طريقه. غير إني أطلب منه هذه المرة فقط، أن يستمع علي سبيل الدردشة لكلام طفل تخطي السبعين. المقاطعة يا عزيزي عمّورة، ليست أداة سياسية من أدوات هذا العصر، كما أن كل القضايا الانفعالية التي تلعب فيها العاطفة دورا رئيسيا، تلف العقل بضباب كثيف فتمنعه من رؤية الأخطار التي يتعرض لها عندما يمارس هذه السياسة. لقد استولي عليك الألم لنشر الرسوم المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام في جريدة دانمركية، فطلبت من الناس أن تمارس أبسط حقوقها لدفع هذه الإهانة بعيدا عن أنفسها، وذلك بالامتناع عن أكل الزبد الدانمركي، وقلت أن الفكرة سعت إليك عندما عرفت أن طفلا قال لأمه وهو جالس إلي مائدة الطعام: مش عاوز آكل الزبدة الدانمركي دي.. وبدافع من التعاطف وربما الرعب أخذت محلات البقالة الكبيرة ترسل لك ما يفيد بأنها قاطعت كل أنواع البضائع الدانماركية. وحدثت أحداث مؤسفة، ثم شاهدتك وأنت تعلن في قلق أن القضية التي دعوت إليها تم اختطافها من آخرين.. وأنك لم تكن تريد ذلك.. وأن الحق الذي كان معنا بات علينا. الواقع يا عزيزي عمّورة أن القضية قد تم اختطافها بعد توجيه دعوتك بثوان، فقد اتصل بالبرناج ممثل الكوميديا المشهور محمد هنيدي ليقول جملة واحدة مشحونة دراميا بأكبر قدر من العاطفة ليبدأ بها عملية الاختطاف، أو ليعلن بها بداية الحرب العربية الدانماركية وهي: يا فرحة سيدنا النبي بيكم.. وبعدها اتصلت الفنانة العزيزة صابرين، وبحسها الدرامي القوي كان عليها أن تتصاعد بالمشهد لتتفوق علي جملة هنيدي العبقرية، فانهارت باكية من التأثر، وكان من الصعب تبين كلماتها من خلال الدموع، ولكنها بدموعها كانت قد أعطت تأييدها ومباركتها إلي عملية الاختطاف التي سيتم بعدها حرق بعض السفارات. وبعد ذلك اتصلت السيدة ياسمين الخيام لتزف إليكما أنت والدكتور عزت أبو عوف نباً غاية في الأهمية وهو أن الجنة من نصيبكما. وأنا لا أناقش هنا بشارتها أو تبشيرها، بل دعني أعترف لك أنني أؤمن إيمانا عميقا بأن الجنة ستكون من نصيب عباد الله الذين يسعدون الناس، تماما كما فعلت السيدة ياسمين بأغانيها الجميلة وكما فعلت صابرين بأدائها التمثيلي العبقري، وأيضا بتلك المتعة الجميلة التي وفرها هنيدي لجمهوره. أصارح يا عمورة، أنني وأنا في جنات النعيم، لن أشعر بالدهشة عندما أكتشف أنك والدكتور عزت وكل العاملين في برنامجك، تقيمون معي هناك. أنا واثق أن الله سبحانه وتعالي سيكافئ كل من أحسن عملا. غير أن السيدة ياسمين تفوقت علي هنيدي من الناحية الدرامية عندما اختارت كلمة واحدة ذات أعظم تأثير وذلك عندما قالت لكما: أبشر... أبشرا. لست أذكر بالدقة كلماتها بعد ذلك غير إني واثق من معانيها، لقد بشرتكما بالجنة، وفي تلك اللحظة تبادلت أنت والدكتور عزت نظرة لها معناها ثم قلت لها في عفوية واستغراب: إحنا..؟ فردت مؤكدة: نعم.. أنتما.. أبشر.. أبشرا.. هكذا تري أن القضية قد تم اختطافها قبل أن ينتهي البرنامج، ولأنك صادق مع نفسك، ولأنك اكتشفت أن دعوتك للمقاطعة ساهمت من حيث لا تدري أو تحسب، في فتح الباب لشرور كثيرة، لذلك كنت الإعلامي الوحيد الذي سافر إلي الدانمرك يحاول إطفاء الحريق وإيقاف الحرب العربية الدينامركية في مراحلها الأولي ثم عدت من هناك لتقول: أيها السادة.. لقد اعتذروا... لقد اعتذروا... وهذا هو اعتذارهم.. الذي نشروه أيضا في الصفحة الأولي باللغة العربية.. ولكن لا أحد من عشاق الحروب رحب بهذه الاعتذارات، وجدوها ليست كافية، وتوالت الاعتذارات.. واتضح أنها ليست كافية.. وذلك لسبب بسيط وواضح هو أن هؤلاء الذين " اللي عاوزين جنازة يشبعوا فيها لطم" سيكون من الصعب وربما من المستحيل حرمانهم من الاستمتاع بهذه الجنازات. أنت صاحب برنامج ناجح يا عمّورة، فاحترس من النجاح، ولا تفتح بابا سيكون من الصعب عليك إغلاقه، أنت شخص مسئول صادق مع نفسك ومع الناس لذلك سيزايد عليك كل الكذابين غير المسئولين، أنت لست مسئولا عن استمتاع البشر ببرنامجك فقط بل عن أرواحهم أيضا، مسئول عن إضاءة الطريق لهم ليكونوا جزءً راقيا من هذا العالم وهذا العصر. واعرف يابني، أن المقاطعة باتت أثرا من آثار الحرب الباردة، عندما كان الكون ينقسم إلي كتلتين، العالم الاشتراكي والعالم الحر، وكانت حكومات العالم الثالث خصوصا الثورية منها تكسب من كل أنواع المقاطعات، حتي البلاد التي كانت محايدة لم تكن محايدة فقط، كانت محايدة إيجابيا.. يعني إحنا محايدين.. بس اللي يدفع لنا حانكون معاه إيجابيين.. أما الآن فالعالم كله أصبح قرية واحدة يعتمد كل سكانها علي بعضهم البعض، انفلونزا الطيور لا تهاجم بلدا أو شعبا، بل تهاجم سكان الكرة الأرضية .. أقصد سكان القرية.