اعتاد المجتمع المصري علي أن يفاجئ الجميع بظواهر لم يكن أحد يتوقعها علي الإطلاق، وأن يطرح كل فترة بعض الأسئلة الصعبة التي لاتوجد لها إجابات محددة، فمن الواضح أن أحدا لم يدرك بما يكفي معني أن تكون هناك كتلة سكانية مقدارها 75 مليون نسمة بعيدا عن تلك الأفكار العامة التي تصور أحيانا أنها مجرد "كم" لايحمل مصادر قوة نوعية، أو أنها في النهاية عبء علي عملية التنمية، فعلي الرغم من تطور علم الاجتماع في مصر، ووجود أقسام اجتماع في معظم كليات الآداب بالجامعات المصرية، وكذلك مركز قومي للبحوث الاجتماعية، مع انتشار استطلاعات الرأي العام، لانزال علي الأرجح لانعرف بالضبط تركيبة المجتمع الذي نعيش فيه. إن أهمية المفاجأة هذه المرة أنها سارة، فعلي الرغم من أن مصر قد شهدت مثل تلك الظواهر "الجميلة" من قبل علي غرار ماسمي "حزب بيل جيتس" أو حركات المتطوعين أو نشطاء الإنترنت أو حفظة القرآن الصغار، كانت المفاجآت التي سيطرت علي الأذهان سيئة في العموم، كأطفال الشوارع أو العنف العشوائي أو التطرف الديني أو التفكير التآمري أو جرائم البلطجة، وغيرها من تلك الظواهر التي أثارت الناس، وبدا من خلالها أن المجتمع المصري يتقلص بشدة، ويلقي بإفرازات سلبية تحت الضغط، ويسير بشكل عام في اتجاه ماهو منغلق وماهو سيئ وماهو "لامنتمي"، وهي كلها أمور تستند علي أسس مهمة، لكنها لاتمثل الحقيقة كلها، فلايزال المجتمع المصري يحمل في جوانبه الكثير. لقد كان ظهور تلك الأعداد الهائلة من المشجعين الجدد للفريق القومي المصري إحدي الابتسامات الجميلة الساخرة لكل من يحاول الإساءة للمجتمع في مصر، أو لمن يتصور حتي أنه يفهمه، فمنذ اللحظة الأولي ساد إدراك يمكن مشاهدته بالعين المجردة بأننا أمام ظاهرة جديدة، علي الرغم من أن أولاد بعضنا كانوا جزءا منها، فبشكل مفاجئ ظهر هؤلاء في استاد القاهرة، وفي الشوارع بعد المباريات، بأعداد هائلة، ووجوه مختلفة تماما عما كان مألوفا، وبحرص كامل من جانب كل منهم علي المشاركة فيما يعتبر أنها مسألة وطنية، وعلي القيام بحركة ما، سواء بتلوين الوجه أو حمل علم أو ارتداء قبعة بصورة لم يسبق معها في تاريخنا الحديث أن شاهدناها، وهي في كل الأحوال تتجاوز حدود الترفيه. لقد كانوا يحرصون علي حضور كل المباريات بصورة تبدو وكأنها واجب منزلي بشكل خلق مشكلة تذاكر عاني منها بعض الآباء، لكي لايفوتوا علي أبنائهم فرصة يعتبرها الأبناء حدثا تاريخيا دون أية مقاومة أو نقاش حول الأسباب التي جعلت هؤلاء يعتقدون فجأة أنهم يجب أن يذهبوا إلي استاد القاهرة، كما كانوا يستخدمون لغة مختلفة تماما عما ألفناه في التشجيع سواء كان الفريق المصري مسيطرا أو مضغوطا، بصورة تلاشت معها فكرة "الدرجة الثالثة" التي توجد أفلام حول جمهورها، وكانوا أيضا ينتمون لكل الأعمار بعضهم من يعتبرون وفقا لمعايير وزارة الشباب الملغاة "طلائع" وعدد كبير منهم من الشباب والكبار، كما كان كثير منهم من " أسر" لم يعودوا يخشون الذهاب إلي تلك الأماكن التي لم يكونوا يرتادونها عادة، والتي أدت بكثير من التحليلات إلي التساؤل عما جري للطبقة الوسطي في مصر. كانوا كذلك يجلسون بشكل مختلط تماما دون مشاكل تذكر بينهم، ودون أي نوع من التمييز بين الفتيات المحجبات وغير المحجبات، بل ان بعض المحجبات قد ضبطوا ملابسهم لتتناسب مع ألوان العلم المصري، الذي أتحدي أن نكون قد شاهدنا تلك المبيعات منه في أية مناسبة سابقة، ويأتي ذلك في وقت تتصاعد فيه قوة الميول المتطرفة التي تولي رعاية خاصة لمسألة الفصل بين الجنسين، وقد سببت مثل تلك الأمور مشكلة في دول مثل إيران، فيما يتعلق بمباريات كرة القدم تحديدا، لكن ماحدث في مصر كان مثيرا، فلدينا فئة لاتعترف إلا بالثقافة المصرية التي لاتري مشكلة إلا فيما توجد مشكلة حقيقية فيه، بعيدا عن تلك الظلامية الواردة من بيئات أخري تحمل ثقافات معادية لنفسها، ومعادية لطبيعة البشر، التي فاجأ المجتمع المصري كل شعوب المنطقة بأنها لاتزال تمثل ثقافة قطاع عريض من أجياله الجديدة التي لم تتأثر بالكثير مما تصورنا أنه قد أصبح مرضا اجتماعيا مستحكما. إن ماجري في استاد القاهرة الدولي وفي شوارع جامعة الدول العربية وعباس العقاد وميدان التحرير بعد المباريات، يمثل ظاهرة تتجاوز كرة القدم بكثير، فأعداد كبيرة منهم هي ممن لم يهتموا بكرة القدم من قبل، بل ان بعضهم لايعرف الفرق بين "الفاول" و"الآوت" ناهيك عن الضربة الحرة المباشرة وغير المباشرة، فكل ماكانوا يهتمون به هو أن هناك فريقا مصريا يواجه تحديا كبيرا أو ربما مأزقا مروعا، وأنهم أحبوا أن يقفوا خلفه، وبعضهم تمني كما قالوا علي شاشات التليفزيون أن ينزلوا إلي الملعب ليلعبوا معه، وكثير منهم لم يحتمل مشاهدة ضربات الجزاء في نهاية المباراة الختامية، وكلهم بح صوته من التشجيع المتواصل أو الصراخ طوال الوقت أو الصفير عندما يستحوذ الفريق الآخر علي الكرة، أو التوتر العصبي الذي لم يفارق أحدا حتي نهاية كل مباراة، أو الدعاء بصوت مرتفع لفريق يبذل كل جهده في مواجهة مهارات قاسية. إن أحدا في مصر لم يتحدث عن الجمهور بمثل ماتم الحديث عنه هذه المرة، فقد كانت هناك ميزات عديدة لقيام مصر بتنظيم الدورة الإفريقية هذه المرة تحديدا، منها أولا قدرة مصر علي تنظيم دورة راقية بعد أن تلقينا ضربة صعبة لم نكن نستحقها في تقدير الآخرين لنا فيما يتعلق بقدرتنا علي تنظيم كأس العالم، أو في تشكيك كثير من معلقينا الرياضيين "العباقرة" أصلا في قدرتنا علي الوصول إلي دور الأربعة في ظل بعض الموبقات التي يتسم بها أحيانا الوسط الرياضي في مصر، والذي أدي إلي إصابة المشاهدين في المنازل بحالة من الكآبة أحيانا، بسبب ذلك الحرس القديم الذي يجب أن يباد من المنتمين لاتحاد الكرة من أنصاف المتعلمين الذين يحاولون الظهور بمظهر الجادين. فما حدث هو أن الجمهور الذي ظهر فجأة منذ اللحظة الأولي قد أصاب الجميع بنوع من الحيرة، فما لدينا ليس أقل علي الإطلاق مما لدي العالم، في الشكل وفي المضمون، فلم يكن استاد القاهرة يختلف في مظهره العام عن أي استاد إيطالي أو بريطاني، بحيث اكتشفنا فجأة أننا ربما كنا مؤهلين لتنظيم كأس العالم، وأن لدينا فئة من البشر في بيوتنا لاتختلف كثيرا عما يوجد في دول العالم الأخري، وبأننا دخلنا العولمة، لكننا لانعلم. إن ماحدث في الأسابيع القليلة الماضية ظاهرة تستحق الدراسة، وقد أدرك الجميع ذلك من اللحظة الأولي، إذ تفاعل الناس مع المشجعين الجدد في المدرجات بنفس درجة تفاعلهم مع اللاعبين في أرض الملعب، وساد اهتمام بمحاولة فهم الجوانب الاجتماعية لتلك الظاهرة بنفس درجة الاهتمام بتحليل الجوانب الفنية للمباريات، ولم تخل عبارة للاعب من لاعبي الفريق القومي من إشارة ما لذلك الجمهور بأنه كان أحد أهم عوامل الانتصار، خاصة أنه كان جمهورا مغايرا لايمثل فقط عامل ضغط، وإنما عامل تشجيع، وكانت لديه إيماءاته ذات الدلالة كما حدث مع "ميدو" عندما اعترض وعندما كرم. ووصل الأمر في المباراة النهائية إلي حد أن أسوأ سيناريو كان الناس يفكرون فيه لو كان فريقنا قد هزم، هو رد فعل ذلك علي الجمهور الذي كان قد أهل نفسه لليلة كبيرة، شاهدها الجميع بالفعل. فلدينا شئ ما للتفكير فيه.