لافتة، بالشكل والمضمون والتوقيت، تلك الصورة الجميلة، للقائد الأعلى للقوات المسلحة، وزير الدفاع المصري، عبد الفتاح السيسي، حينما كان صغيراً، يرتدي الزي العسكري، ويؤدي التحية العسكرية لفخامة جمال عبد الناصر، ويبدو ابو خالد يبتسم في وجهه ضاحكاً، صورة من التاريخ، مؤثرة ومعبرة، وتطرح جملة استفهامات حول «السيسية» السياسية، الناشئة في المجتمع المصري اليوم، كبديل موضوعي لأفول نجم الإسلام السياسي بمعناه الإخواني، وتحول التنظيم العالمي للإخوان إلى «ضيوف ثقيلة» على الشارع العربي، من المحيط إلى الخليج، خصوصاً بعد التحول الكبير في المجال القطري، بعدما بات واضحاً أن «العهد القطري الجديد» ليس «سر ابيه» في الملف الإخواني.من السابق لأوانه المقارنة بين الناصرية والسيسية، مع أن كثراً هم من قارنوا، مشهدية الأمس في ميدان التحرير والميادين المجاورة، وكثرا من حالوا «فحص دماء» شعبية السيسي إنطلاقاً من الملايين العديدة التي عجت بها ميادين مصر، ما ذكر بالمسيرات المليونية في التاسع والعاشر من حزيران من العام السابع والستين، يوم استقالة ناصر، والثامن والعشرين من سبتمبر من العام ألف وتسعمائة وسبعين، يوم وفاته. في الحالين، كان الوفاء عنوان المسيرات. ربما يترك للأيام المقبلة أن تفصل في هذه الإشكالية، وإن برز إلى السطح بعض التقارب أو التشابه، رغم ذلك، رب قائل يقول أن تدخل العسكر لخلع مرسي هو مؤشر لهوس القيادة العسكرية بالحكم، رغم إعلان الجيش عدم رغبته بذلك، ويقول هذا البعض، أن هذا التدخل حول الإخوان المسلمين إلى ضحية إنقلاب وما أسموه «استبداد العسكر»، بدل ان يكونوا «حالة إسلامية متخبطة تتجه نحو الزوال والإضمحلال إلى الأبد»، بل ويعتبر ان الجيش بحاجة إلى فزاعة الإخوان ليقمع الشعب المصري ويمهد لديكتاتورية عسكرية جديدة. هذا التحليل، على أهميته، يجانب بعض الحقائق، ولا يلامسها، فالخيار الإخواني، لا يتلاقى مع العقل المصري مطلقاً، مصر بلد لا يمكن حكمه باستخفاف ولا بعشوائية، مصر تحب أم كلثوم حبها لعبد الباسط عبد الصمد، مصر لا يمكن أن تحكم ضد تاريخها أبدا، مصر أنجبت عبد الناصر، والتجربة الناصرية اليوم، تطرح بقوة مع إفلاس الأطاريح الأخرى.فعبد الناصر كان قائداً تحررياً على مستويات عدة، منها ما هو مصري داخلي، وطني بالمعنى السياسي للكلمة، ومنها ما تعلق بالبعد القومي العربي، وإن لم يطرح، كما قال هو، نظرية فكرية شاملة. وقف ناصر في الوسط بين الإيمان الديني، بأبعاده الفلسفية والسلوكية والفكرية، وبين الوجه القومي، منطلقاً من الأطروحة القومية العربية، والهوية العربية الشاملة، رافعاً شعار الحرية والاستقلال والعدالة والتحرر، لكن من خلال نبذ العنف، وعدم استعماله في عملية التغيير الإجتماعي والسياسي، وبالاستناد للعمق الحضاري الاسلامي، و«الدور الإيجابي للدين والقيم الروحية في المجتمع»، وأخيراً «الدوائر الثلاث التي تنتمي مصر إليها: العربية والإسلامية وعدم الإنحياز»، ما خلق وبحق، حالة من التفاعل والتكامل بين الوطنية والعروبة والانتماء الحضاري الإسلامي». من ثم، الانطلاق من بوابة عدم الإنحياز، والدول الإشتراكية، إلى العالم الكبير.لسنا في وارد محاكمة الناصرية، المجال السياسي العام لا يسمح، أضف إلى أن المشهد السياسي المصري، المبتلى اليوم «بالهرج والمرج»، أصبح بحاجة إلى استحضار أي نموذج ناجح، وإن نسبياً، تمرد وغيرها من التحركات، أعادت إنتاج شعارات ثورة الثالث والعشرين من يوليو، إن تصريحاً او بالإشارة، القضاء على الاستعمار، وربما مهاجمة السفارة الاسرائيلية في أحداث التحرير مؤشر، و«إحمرار العين» من الرئيس المعزول مرسي بعد الإعلان الصارخ والإحتفالي عن بيان البروتوكول التقليدي الذي يتهم شيمون بيريز بأنه «صديق عظيم» لمصر، ثم القضاء على الإقطاع، وما حركة «كفاية» إلا مؤشر، إذ التوريث السياسي ليس إلا الاقطاع متجسداً، والثالث القضاء على الاحتكار، وتجسده الملايين من العاطلين عن العمل، في مقابل تمتع الطقم الحاكم بالإمتيازات، ورابعها إقامة العدالة الإجتماعية، وهذا ما لم يعه النظام القائم بعد الثورة، نظام إدارة الفوضى، الذي انتهى في فوضى عارمة. خامس وسادس الأطاريح الناصرية كان إقامة جيش وطني، وديمقراطية سليمة، ربما المؤسسة الوحيدة الباقية لمصر هي مؤسسة القوات المسلحة، من هنا، حرص السيسي على إظهار تضامن شعب مصر معه، مستلهماً الناصرية بامتياز، حينما «دعا إلى التظاهر» لحماية مصر من الإرهاب. عبد الناصر لم يدع، الشعب نزل إلى الشوارع، طالباً منه العودة لقيادة البلاد، بعد النكبة في الحرب. الديمقراطية السليمة، وهذا المصطلح مطاط بما يكفي في زمن العقول المغسولة، لكن، ربما من المفيد ذكر ما قاله أحدهم أن إرادة الشعب هي مشيئة الله. بالإجمال، على السيسي أن يكون «حكيماً فوق العادة»، فمصر اليوم لا تستطيع أن تحتمل مغامرات، الأجندة الأولى التي يجب أن تكون هي إعادة الامن والاستقرار إلى ربوع المحروسة، وبالتزامن، مباشرة، الملف الإقتصادي الضاغط، ممنوع أن تجوع مصر، خطر جداً هذا، عليها أولاً، وعلى العروبة ثانياً، وعلى المستقبل. الناصرية ليست مثالية، أحياناً تحمل مضامين متناقضة، إلا أنها إن عنت بناء نهضة عربية، قائمة كما قلنا سابقاً ونعيد، على التنوع في الوحدة، والوحدة في التنوع، إن عنت نهضة تصون خصوصية كل بلد عربي، ولا تعيد إجترار الخطاب الخشبي للدولة المركزية التي أثبتت فشلها في معظم الحالات، بل تعمل لتكامل عربي، منطلق من التكامل الاقتصادي، والتداعم والمساعدة، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والتنوع الثقافي والفكري، ودعم الديمقراطيات وحقوق الإنسان، وتسعى لقراءة التجربة الناصرية، وليس استنساخها، بل العمل مع الجميع لعدم تكرار سلبياتها، والإستفادة من إيجابياتها.. بهذا المعنى، التجربة تكون بالحد الأدنى «تستحق الدرس». ** صحافي وأستاذ جامعي من لبنان