لقد كان صعود المذهب السلفي إحدى سمات الربيع العربي، حيث أصبحت تشعر بعض القوى الإسلامية وبشكل خاص في لبنان بأنه ليس عليها التعامل مع إيران وحزب الله على مستوى مباشر بعد الآن، لأنه بات بإمكان هذه القوى السلفية مواجهتهما مباشرة. فمنذ أن بدأت الثورة السورية، أصبح الشيخ أحمد الأسير إمام مسجد بلال بن رباح الذي أصبح يمثل التيار السلفي الجديد، وبشكل مطرد، أكثر راديكالية، ويشكل خطابه علامة متميزة في انطلاقة جديدة للبنان، فبعد عقود من الصراع بين طوائفه المتعددة، استقر اللبنانيون على التحدث بحذر ودقة وبعبارات رقيقة وملطفة والإشارة إلى الشعور الطائفي والمذهبي بكلمة "الفتنة"، التي أدت إلى الاضطراب الاجتماعي، لكن "الأسير" يقول بأن الحرب السورية غيّرت كل شيء. وفي هذا الإطار اشتد الوضع في الشمال اللبناني عبر تصاعد المواجهة بين أفراد من مناصري الشيخ "الأسير" وقوات الجيش اللبناني، الذي أعلن في بيان له مؤخرا أن ثمانية أشخاص لقوا مصرعهم، وأصيب آخرون في اشتباكات متواصلة بين الجيش اللبناني ومناصرين للشيخ أحمد الأسير في مدينة "صيدا" بجنوب البلاد. دعوات سياسية وفي ظل هذه الأجواء، دعا الرئيس اللبناني ميشال سليمان إلى اجتماع وزاري أمني في "بعبدا"، لمناقشة تداعيات مقتل عناصر الجيش، وشدد سليمان على أن الجيش لديه تفويض كامل "لضرب المعتدين وتوقيف المنفذين والمحرضين وسوقهم للعدالة". واعتبر سليمان أن الدعوات الموجهة إلى العسكريين للانشقاق عن وحداتهم والقتال ضد الجيش "تصب في خانة مصلحة أعداء لبنان، ولن تجد آذاناً صاغية لدى المواطنين اللبنانيين والفلسطينيين، ولدى أفراد الجيش". من جانبه، دعا رئيس الوزراء المكلف تمام سلام جميع القوى السياسية لمؤازرة الجيش والقوى الأمنية، ووضع حد للصدامات المفتعلة التي باتت عبئاً على الجميع دون استثناء. كما أدان رئيس الحكومة اللبنانية المستقيل نجيب ميقاتي التعرض للجيش اللبناني، وأكد أنه يشكل صمام الأمان للبنان، ودعا الجميع إلى "عدم الانجراف وراء محاولات تفجير الأوضاع في لبنان. وبدوره، قال وزير الداخلية مروان شربل :إن الوضع يشكل اعتداء على الجيش من دون سبب، وخلق فتنة، وطلب من الجيش أن "يكون حازماً في خطواته من أجل دماء الشهداء الذين سقطوا". من جانبها، أكدت الجماعة الإسلامية أن اشتباكات صيدا تستدعي عملاً سريعاً لوقف إطلاق النار، والعمل على مبادرة سياسية تجنب المدينة والمدنيين والعسكريين مزيداً من الخسائر. وصرحت قيادة الجيش أنها حاولت منذ أشهر إبعاد لبنان عن الحوادث السورية، وعدم قمع المجموعة التابعة للشيخ أحمد الأسير في "صيدا"، حرصاً على احتواء الفتنة والرغبة بالسماح لأي طرف سياسي بالتحرك والعمل تحت سقف القانون، لكن ما حدث في صيدا مؤخرا فاق كل التوقعات، معتبرة أن الجيش استهدف بدم بارد وبنية مقصودة لإشعال فتيل التفجير في "صيدا". وطلبت القيادة من قيادات "صيدا" السياسية والروحية ومرجعياتها ونوابها التعبير عن موقفها علناً وبصراحة تامة، فإما أن تكون إلى جانب الجيش اللبناني لحماية المدينة وأهلها وسحب فتيل التفجير، وإما أن تكون إلى جانب مروجي الفتنة وقاتلي العسكريين. وفي المقابل ظهر الشيخ أحمد الأسير على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" وهو يحمل بندقية، ووجه نداء إلى مناصريه طالباً المساعدة وقطع الطرق، ودعا "الأشراف من السنة وغير السنة" إلى الانشقاق عن الجيش اللبناني. ملامح السلفية ومن المرجح أن نشأة التيار السلفي في لبنان ترجع إلى دعوة الشيخ سالم الشهال في طرابلس عام 1946، والحقيقة أن هذا التاريخ يشكّل بداية الانتظام الإسلامي السلفي في لبنان عبر حركات دعوية سلفية أو سياسية إسلامية، ولكنه لا يختزل تاريخ السلفية الفعلي في لبنان فقد حظيت الفكرة السلفية بانتشار كبير في بلاد الشام مطلع القرن العشرين. والجدير بالذكر أن الظاهرة السلفية المعاصرة والراهنة في لبنان بتشكلاتها المختلفة بدأت في طرابلس التي احتضنت أسباب تصاعد الدور السلفي في الآونة الحالية، ثم انتقلت لسائر المدن اللبنانية. وبالتالي كانت طرابلس مهد نشوء الحركة السلفية ومعقلها، كما كانت أيضاً مهد نشوء الجماعة الإسلامية وحزب التحرير وحركة التوحيد وغيرها من الحركات الإسلامية، ويرجع ذلك إلى خصوصية طرابلس التاريخية والاجتماعية، ولم تقبل طرابلس وجدانياً وسياسياً بالاستقلال اللبناني، حتى مرحلة متأخرة. وهكذا اتسمت طرابلس بموقف الارتباط بالداخل السوري وبالمحيط العربي، وحافظت دائماً على وضعها كمدينة إسلامية تقليدية، قاعدتها الاجتماعية الأساسية تتشكل من صغار الحرفيين، وذلك بفعل التهميش الاقتصادي والاجتماعي الذي تعرضت له. من ناحية أخرى، كانت هناك عوامل أخرى ساعدت في هذا الصعود في العقد الأخير، مثل اغتيال رئيس الوزراء "رفيق الحريري" سنة 2005، مروراً بحرب تموز سنة 2006، واجتياح ميليشيات "حزب الله" للعاصمة بيروت سنة 2008 حتى اللحظة الراهنة. وبطبيعة الحال انتشرت الجمعيات والمعاهد السلفية في "لبنان" من الشمال إلى أقصى الجنوب مروراً ب"بيروت"، ويبلغ عددها أكثر من 25 جمعية تقوم بأنشطة خيرية في مجال علاج المرضى ومساعدة الفقراء ودعم الطلبة المتفوقين علمياً والدعوة الدينية ومساعدة الأيتام والأرامل، والكثير منها لا يتوقف نشاطه على العمل الخيري أو الدعوة بل راكمت نفوذاً سياسياً. بين الدعوة والسلاح والثابت أن الدعوة السلفية في لبنان تأسست على قاعدة العمل الدعوي والخيري الاجتماعي وبالارتباط بمدارس السلفية في السعودية في البداية، ثم أدت الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975 إلى تطعيمها بمدارس جهادية ومسلحة، حاولت الدفاع عن الهوية السنية لمدينتي طرابلس وصيدا في وجه النظام السوري، ومع تصاعد الاعتداءات والغزوات الإسرائيلية نشأت سلفية مقاتلة في المخيمات الفلسطينية، غير أن العامل الحاسم في تطور السلفية اللبنانية تمثل بالجهاد الأفغاني، ففي أفغانستان انتظم التكوين السلفي المجاهد في كيانات واجتهادات، وانضمت إليها لاحقًا عناصر جهادية من جنسيات مختلفة، حملت فيما بعد اسم الأفغان العرب، وقد تطورت هذه الجهادية السلفية الجديدة في المخيمات لاحقًا من خلال الجهاد في العراق. وهكذا نمت منظمات جديدة رفضتها تيارات السلفية التقليدية، فالسلفيون التقليديون هم الأغلبية الساحقة من التيار السلفي في لبنان، وهم على نقيض تام مع أفكار ونهج ومبادئ القاعدة، التي وبحسب رأيهم تمثل تشوهاً لصورة السلفيين الذين لا يرضون بالقتل والتدمير إلا إذا كان جهادًا دفاعًا عن الأرض أو العرض. كما يؤكد هؤلاء على وجود مجموعات سلفية تكفيرية في لبنان، تلتقي مع القاعدة في الفكر والمنهج، لكنها ليست قادرة على أن تتصل بها أو ترتبط معها تنظيميًا لأسباب عدة، أبرزها التعقيدات الأمنية لدى القاعدة والرقابة الأمنية المفروضة على هذه المجموعات، والدليل على ذلك هو أن عددًا من الأشخاص محتجزون لدى القضاء اللبناني بتهمة الفكر الجهادي الذي تحمله القاعدة، والأكثر من ذلك أن بعضهم يحاكم بتهمة الانتماء إلى القاعدة نفسها.