عرفت القارة الأفريقية طريقها إلى النزاعات المسلحة والصراعات العرقية والإثنية، بعد حصول معظم أقطارها على الاستقلال في القرن الماضي، نتيجة العواقب الوخيمة التي كرسها الاستعمار في هذه الدول. وقد نمت في ظل بيئة العنف المسلح بشكل خاص العديد من الحركات الإسلامية في الكثير من دول وسط وغرب أفريقيا، إلا أنه في وقتنا الراهن ازدادت تداعيات هذا التنامي في العديد من دول الساحل الغربي مثل "مالي" و"النيجر". ولا شك أن العملية الفرنسية في "مالي" كانت محفوفة بالمخاطر منذ بدايتها، ولعل اعتقاد الفرنسيين أن القضاء على ظاهرة التسلح الإسلامي الجهادي بالقوة كان وهماً، وما نشهده اليوم ليس سوى تفاقم وتجسيد لاختلالات المقاربة الفرنسية. ومما يعقد هذه الوضعية المتأزمة أصلاً تأكيد رئيس "النيجر" "محمدو إيسوفو" على أن العناصر التي هاجمت "منجم أرليت" كانت قد تسللت من "ليبيا"، وهذا ما يعني أن فرنسا ستفكر بجدية في رؤيتها الأمنية في المنطقة، خصوصاً وأن هجوم "أرليت" يأتي بعد شهر من تفجير سفارة فرنسا ب"ليبيا" يوم 23 أبريل 2013. أسباب ودوافع وفي معرض الدوافع والأسباب التي ساقها منفذو الهجوم على "النيجر"، نجد أن الأسباب حملت توعدهم كل الدول التي دعمت "فرنسا" في تدخلها العسكري في "مالي"، كما أكدوا على أن الهجوم على "النيجر" جاء نتيجة مشاركة "نيامي" في التدخل العسكري في "أزواد" من جهة ونتيجة إعانتها من جهة ثانية ل"نيجيريا" في تعقب مسلحي تنظيم "بوكو حرام" من جهة أخرى، حيث كانت "أبوجا" قد طلبت هذا الشهر من "النيجر" مساعدتها في التصدي لمسلحي "بوكو حرام". وقد وجه قادة هذه التنظيمات في أكثر من مناسبة توعداً قوياً إلى "فرنسا" ودول الساحل، التي شاركت إلى جانب الجيش الفرنسي في أحداث "مالي" الأخيرة في شهر يناير الماضي، التي آلت إلى طرد التنظيمات الجهادية المسلحة من منطقة "أزواد" بشمالي "مالي"، وقال متشددون: إن الهجومين جاءا رداً على دور "النيجر" في الحرب التي قادتها "فرنسا" على الإسلاميين في "مالي". ويرى العديد من الخبراء أن الجنوب الليبي أصبح خلال الأشهر الأخيرة من المعاقل التي أعادت فيها الخلايا الجهادية تنظيم صفوفها، بعد إخراج الجماعات الإسلامية المسلحة من شمال "مالي" منذ يناير، إثر عملية عسكرية فرنسية أفريقية. ولعل التطورات الأمنية داخل "ليبيا" والمواقف الليبية المتباينة من "فرنسا" أمور مرتبطة بما يحدث بشمال "النيجر"، ففي ظل تشابك العلاقات وتعددها بين الجنوب الليبي وبين منطقة الساحل وخصوصاً شمال "النيجر" وشمال "تشاد"، فإن الوضع الأمني بهذه المنطقة سيظل مقلقاً. إذن، فالمؤشرات الأولية تقول: إن أفريقيا تربة خصبة يمكن أن تنمو فيها الحركات الإسلامية الجهادية، خاصة في المناطق التي توجد بها صراعات دينية. أضف إلى ذلك الفكر أن تنظيم القاعدة أصبح الآن ملهماً لأي جماعة إسلامية عنيفة تريد أن تحقق أهدافها بالقوة المسلحة، مما قد يسهل انتشار مثل هذه النماذج في أفريقيا، مع ملاحظة أن الفكر القاعدي أصبح يعاني التراجع في الآونة الأخيرة، وذلك بسبب المراجعات الفكرية للتيارات الجهادية الأهم في العالم الإسلامي، مثل مراجعات الجماعة الإسلامية، وتنظيم الجهاد في "مصر"، وكذلك مراجعات الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة في "ليبيا"، وغيرها من التيارات الجهادية التي تراجعت عن الفكر الجهادي لما فيه من أخطاء فادحة. يأتي ذلك في ظل ما تشهده منطقة الساحل الأفريقي من صراعات وحروب، ودخول قوى دولية في هذا الصراع مثل التدخل الفرنسي في "مالي"، وتداعيات الربيع العربي في "ليبيا"، مما يجعلنا نتساءل حول حقيقة هذا التدخل، وهل سيكون تكريساً لحركات الانفصال التي تجد لها تربة خصبة في القارة السمراء؟ تداعيات محورية ومع تأكيد المصادر الفرنسية والنيجرية على القضاء على من تبقوا من المهاجمين أثناء تدخل مشترك بين القوات الفرنسية والنيجيرية، فإن الدمار الذي تركه الهجومان كان شديداً، وهو ما أعطى للعملية وقعاً إعلامياً، وجعل بعض المصادر تصفها بالنوعية. وأسفر الهجومان اللذان وقعا يوم الخميس عن مقتل 24 جندياً، ومدني، وإلحاق أضرار بمعدات في منجم "سومير" التابع لشركة أريفا الفرنسية والذي يمد المفاعلات النووية الفرنسية باليورانيوم. ويعتبر هذا الهجوم، غير الجديد من نوعه، ضربة قوية للاقتصاد النيجري وللمصالح الفرنسية الإستراتيجية في المنطقة؛ حيث تأتي هذه العملية، وقد مرت ثلاث سنوات على اختطاف مسلحين منتمين لتنظيمات الجهادية لسبعة رهائن بأرليت ومن بينهم خمسة فرنسيين، مما يعني مزيداً من استهداف المصالح الفرنسية بمنطقة الساحل وبغرب أفريقيا، وتعهدت الحركات الجهادية في غرب أفريقيا وتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي بضرب المصالح الفرنسية في أنحاء المنطقة. ومن التداعيات الأخرى الإستراتيجية التي تركها هذا الهجوم الأخير على "النيجر"، أنه ثمة انسجام تام بين مختلف مكونات التنظيمات الجهادية بمنطقة الساحل وبشمال أفريقيا، وهو ما دل عليه اختيار اسم القيادي "عبد الحميد أبو زيد" لهذا الهجوم، وهو زعيم حركة التوحيد والجهاد الذي قتل في عمليات الحرب على "مالي"، بما يؤكد التواصل بين التنظيمات الجهادية في الغرب الأفريقي، وبين تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. ومن ناحية أخرى لن تكون "موريتانيا" و"الجزائر" - وهما دولتان معنيتان أكثر من غيرهما بأزمة شمال "مالي" - بمعزل عن هذا الوضع الأمني الجديد الذي نتج عن الهجوم على موقع "أرليت". سيناريو الخطر وفي ظل الخوف من تكرار سيناريو الحرب في "مالي" الذي لم تنفض شباكه حتى الآن، هل ستجد الدول التي أرسلت جنودها إلى "مالي" ك"التشاد" و"نيجيريا" و"السنغال" و"التوغو" و"بوركينافاسو" و"غانا" و"ليبيريا" و"السيراليون" نفسها مطالبة بالتفكير في ضرورة تدعيم وتقوية احتياطاتها الأمنية؟ ولكن يظل الخوف من انتشار الحركات الانفصالية، وتفكيك أواصر القارة السمراء، وزيادة التدخلات الغريبة في شئونها في حين أن السبب الحقيقي وراء الأطماع الاستعمارية والتوسعية هو تمتع دول الساحل الغربي الأفريقي بموقع جغرافي هام وإستراتيجي، وبشواطئ هي الأغنى بمخزونها السمكي في العالم، وبثرواتها المختلفة كالنفط والغاز الطبيعي، والذهب والنحاس، والحديد، واليورانيوم، والفوسفات الذي يشكل ربع الاحتياط العالمي، وهذا ما اتضح من التدخل الفرنسي في "مالي"، وسعيها لتكريس هذا التوغل في قلب القارة الأفريقية ب"جمهورية أفريقيا الوسطى"، مما يستدعي القيادة الأفريقية لضرورة الانتباه لمثل هذه المحاولات لطمس الهوية وتأصيل الصراع. وفي النهاية يبدو أن هناك اتفاقاً حول مستقبل الوضع في الغرب الأفريقي، واحتمالية أن تكون الدول التي شاركت بقواتها في الحرب على "مالي" أهدافاً لهجمات مشابهة لما وقع في شمال النيجر؛ مما يعني مزيداً من التوتر الأمني في منطقة الساحل، وربما ينسحب على دول المغرب العربي المرتبطة أمنياً وجغرافياً وإستراتيجياً بهذه المنطقة.