النظام الجديد عادة ما يكون مثل القديم لا تأخذ الطغاة بجدية اسخر منهم ولا تحترمهم "من الأساليب الأكثر سهولة أن تتبع الطغاة في أرضهم، وتصبح هزلياً أكثر منهم. إلى حيث يذهبون أذهب أبعد منهم، وسوف أدفعهم أن يجربوا السخرية، كي أحقق فرحتي الكبرى". هذه هي وسيلة البير قصيري للمقاومة كما كتبها في روايته "العنف والسخرية"، التي حصلت على جائزة الأكاديمية الفرنسية قبل عامين. وهي أهم رواياته على الإطلاق، وذلك حسبما كتب قصيري في خطابه إلى روايات الهلال: "إنه لمن أسباب السعادة بالنسبة لي أن أكون مقروءاً في وطني، خاصة أن "العنف والسخرية" هي أكثر أعمالي قرباً إلى قلبي". وقصيري هو كاتب مصر كان يكتب بالفرنسية، لكنه نجح في وصف الفقراء والاقتراب من عالمهم. وهو أديب نعته فرنسا، رغم رفضه الجنسية الفرنسية، وإصراره على الاحتفاظ بجنسيته وروحه المصرية، التي لم تغادره طوال 60 عاما، قضاها بباريس، التي نشرت أعماله واحتفت بها، ومنحته عديد من الجوائز، واعتبرته إضافة فريدة للأدب واللغة الفرنسية. في روايته تعامل قصيري مع "السلطة" باعتبارها آفة حياتية لا بد منها، وبالتالي يجب القضاء عليها، لا بالمواجهة وتمثيل النضال الزائف، بل بالسخرية منها واعتبارها مزحة يجب التسلي بها!. في "العنف والسخرية" يأتي المحافظ الجديد، ممثل الحكومة وسلطتها، يريد أن يقضي على أعرق مهن المدينة، وهي الشحاذة، فيجمع الشحاذون التبرعات لعمل تمثال للمحافظ يوضع عند بوابة المحافظة، تقديرا منهم لجهوده في تنظيف المدينة من الشحاذين، فما كان من السلطة الأعلى إلا أن أقالت المحافظ نظرا لشعبيته التي قد تصبح خطرا على السلطة الأم! السخرية فقط كما تبناها قصيري، هي القادرة على التعامل مع مثل هذه الآفات. السخرية هي الطريق إذاً وهي صنع تمثال للمحافظ، والمقاومة باللسخرية هي السلاح الفعال برأي الكاتب وشخوص أبطاله، حتى أن "هيكل" أحد أبطال الرواية قال أنه إذا لم تنجح خطة التمثال عن إبعاد المحافظ للأبد، سيتم تنفيذ حيلة هزلية جديدة. النظام، كما وصف "قصيري" قبل نصف قرن، "يتداعى وتنتهي هَيبته كلما ازدادت سخريتنا منه، فلا يخيف أحداً"، وكما وصف "قصيري" أيضاً، فإن "النظام الجديد سيكون تماماً كالقديم" لذلك كما يقول: "لا تأخذهم بجدية حتى لا تمنحهم احتراماً لا يستحقونه، اسخر منهم وسيسقطون وحدهم". بالسخرية وحدها تستطيع إسقاط النظام كما يؤكد قصيري في روايته قائلاً: "هناك ميزة خطيرة في السخرية- أنه لا يمكن مواجهتها". رواية "العنف والسخرية" كتبها ألبير قصيري عام 1964، تدور أحداث الرواية في مدينة الإسكندرية، بين حي الجمرك وشارع الكورنيش وأبنية المدينة الشعبية، وأبطال الرواية يعيشون بكافة مستوياتهم في أطلال المدينة، بدءاً من "كريم" الذي اختار غرفة فوق السطح، يقيم بها منذ سبعة أيام فقط وهو القادم من حي شعبي ملئ بالحركة والبشر، ثم خالد عمر الذي تحول إلى تاجر كبير، وهو الذي لا يجد متعته إلا مع الفقراء، ولا يحس بأي سعادة إلا بين البسطاء. أما هيكل فرغم أن الرواية تشير أنه يتصرف كأحد أبناء الطبقة الراقية، فإننا نفهم من حواره مع خادمه "سري" أنه يعيش في منطقة شعبية، يهتم فيها الناس بأن يعرفوا المزيد من الحكايات عن هذا الأنيق صاحب البدلة الواحدة. المكان الوحيد الفخم الذي نراه في الرواية هو "النادي" الذي يرتاده المحافظ الجديد وأعوانه. المثقف في الرواية متمرد إيجابي، والتمرد هنا اتخذ شكلاً إيجابياً هو السخرية من المحافظ، هذا المحافظ الذي أشعر هيكل بالندم لأن المحافظ قد أُقيل من منصبه لأنه كان لعبته التي يمارس عليها تمرده. وهيكل في الرواية ينتمي إلى طبقة اجتماعية أعلى قياساً إلى زملائه، وهو صاحب رؤية للعالم من حوله، وهذا هو سبب إعجاب مجموعة من الشباب به، والتفافهم حوله، فإذا كان جوهر قد وجد في الحياة الهامشية التي اختارها سعادته الخاصة، وهو الأستاذ الجامعي سابقاً الذي اكتشف زيف التاريخ، فإن هيكل أصغر سناً 32 عام، يعيش شبه معدم، ولذا فإنه في حاجة إلى تمويل من خالد عمر، الثري الذي يمكنه أن يتاجر حتى في النمور. في الرواية يظهر المدرس "عرفي" وهو رجل يعيش في عالم من البراءة، تمثله أمه المجنونة من طرف، فالمجنون هو الشخص الوحيد الذي لا يعرف المكر، والخبث، اما على الطرف الثاني فهناك تلاميذ مدرسته الصغيرة الذين يأتون للتعليم لديه طوعاً، وهو يعلمهم على طريقته الخاصة، فالمدرسة مفتوحة والأولاد على سجيتهم وهم يأتون إلى المدرسة صيفاً في أثناء العطلة، وأثناء حرارة الجو التي تلهب المدينة، وهؤلاء الصغار يجب أن يكونوا أطفالاً، فإذا خرج أي منهم من مرحلة الطفولة فقد براءته، وتعلم الخبث والمكر، فالكبار تملؤهم الأنانية والغباء والقبح والطموح الخائب وأنهم جميعاً معذبون بطموحهم، لذا فهو لا يتوانى عن الإشارة للصغير "زرطة" الذي لم يعد طفلاً بأن موعد طرده من المدرسة قد اقترب، لأن على الأطفال فقط من سن السادسة حتى سن العاشرة أن يبقوا هناك. في الرواية تظهر "قمر" العاهرة الطيبة كما يصفها قصيري، فلعلها تمارس هذه المهنة لأول مرة، والماخور هنا هو الكورنيش نفسه، حيث يصطاد الرجال بنات الليل أو العكس، وفوق هذا الكورنيش التقى كريم بعاهرته التي جاءته في أول الرواية، ثم جاءته مرة أخرى في نهايتها، فالنساء في هذه الرواية بجميع أعمارهن عدا أم عرفي، يسلكن سلوكاً رديئاً وفاحشاً ابتداء بسعاد التي تتجسس على أبيها من أجل هيكل، وتنقل له الأخبار أولاً بأول وتنتهي علاقتهما بمجرد أن تؤدي وطرها المرتبط بمصلحة هيكل، أما أصغر النساء فهي الطفلة التي يراها جالسة تنظر إليه وكأنها توده أن يخطفها، فهي ليست في نظره "طفلة" بل أنثى مستعدة أن تهرب مع فارسها رغم أنها في الثامنة!. أما النموذج الوحيد البرئ النقي فهي "أم عرفي" العجوز المجنونة التي تعيش من خلال عقلها المفقود في جو من الفنتازيا الوردية، والحلم اللازوردي الذي يذهب بها بعيداً، وهي تتخيل نفسها بملابسها الرثة أميرة أحلام جاءت من زمن بعيد، إلى زمن الصبا في أحد مشاهد الرواية الأكثر تأثيراً في النفوس. وفي نهاية الرواية يحذر قُصيري من أن يتحول الجلاد إلى ضحية، والمجرم إلى شهيد في حال تمت مواجهته ب"عنف مجاني" يعطيه مجداً لا يستحقه: "ما يجب أن يحدث هو أن تسخر منه حتى يتهاوى، وقتها سيختفى من الحياة، ولن يتذكره أحد". يذكر أن قصيري لقب ب"فولتير النيل"، وأوسكار وايلد العرب، ولد ألبير قصيري عام 1913م بحى الفجالة بالقاهرة لأبويين مصريين أصولهما من الشوام ، كانت عائلته من الميسورين حيث أن والده كان من أصحاب الأملاك . كانت فلسفة ألبير قصيري في حياته هى فلسفة الكسل ، لم يعمل في حياته وكان يقول انه لم ير أحدا من أفراد عائلته يعمل الجد والأب والأخوة في مصر كانوا يعيشون على عائدات الأراضى والأملاك ، اما هو فقد عاش من عائدات كتبه وكتابة السيناريوهات. بدأ ألبير قصيري الكتابة في سن العاشرة، وكان يصف نفسه ب"الكاتب المصري الذى يكتب بالفرنسية"، ترجمت أعماله إلى 15 لغة منها العربية، في حوار له في مجلة قبل سنوات من وفاته سأله الصحفى : كيف تريد أن تموت ؟ قال : على فراشى في غرفة الفندق ، وقد تحقق له ما أراد حيث توفى ألبير قصيري في 22 يونيو 2008 عن عمر 94 عاما بغرفته بفندق لا لويزيان، وقد ترك ميراث أدبى عبارة عن 8 روايات ومجموعة قصصية وديوان شعر.