إن السياسة الخارجية لأي بلد ، والسياسة الخاصة بأمنه الوطني يجب أن تعكس الأجواء الإستراتيجية السائدة ، وعليه فإن أهم ما يميز العلاقات الهندية الصينية المعاصرة هو تأرجحها على مدى أربعة مراحل بدأت بالتفاؤل المفرط ، الذي ما لبث أن تغير إلى الشك وعدم الثقة ثم إلى الوفاق ، لتتراجع عنه مؤخراً بعض الشيء ، إلا أن القاسم المشترك في هذه المراحل المختلفة احتلته مسألة الخلاف على الحدود بين الدولتين الذي مثل أهمية كبرى فى تحديد مسار العلاقات بينهما. وفي حين يتجه البعض إلى التكهن بأن مستقبل العلاقات الهندية الصينية لن يشهد تصعيداً عسكرياً مباشراً حتى مع تصاعد أزمة الحدود انطلاقاً من وجود جوانب اتفاق واهتمام مشترك تفوق جوانب الاختلاف، غير أن هذا لم يمنع البعض الآخر من اعتبار مشاكل الحدود بداية محطة جديدة من محطات الحرب الباردة بين البلدين، فضلاً عن صراع النفوذ الإقليمي الذي يعيشه جنوب وشرق القارة الصفراء. جذور التوتر ولعل الثابت في علاقات البلدين أن النزاع على الحدود يعود إلى زمن طويل عندما أعادت الصين تأكيد حقها في جزء كبير من الأراضي الهندية، كما رفضت الصين رفع عقوبات دولية على التبادل النووي المدني مع الهند، وعلى العكس بدأت الصين في تعزيز علاقتها مع دول جوار الهند لأسباب اقتصادية وإستراتيجية، وأيضاً لتطويق الهند ومنعها من الظهور كقوة عالمية في آسيا كما يرى الكثير من المحللين الهنود. فقد ساعدت باكستان (عدو الهند اللدود) على بناء مفاعلين نوويين ودعمت بقوة مطالب الجانب الباكستانيبإقليم كشمير، كما أصبحت الصين من أكبر الشركاء التجاريين لبنجلاديش وزادت استثماراتها بها، وعمقت علاقتها بجيش وشرطة نيبال، وساعدت في إنشاء طريق جديد يؤدي إلى إقليم التبت، كما قامت بتزويد سيريلانكا بأسلحة ساعدت الحكومة في التغلب على التمرد في إنهاء حرب أهلية استمرت 26 عاماً، فضلاً عن بناء ميناء جديد كبير جنوب الجزيرة. وتأكيداً من الصين لهذا الاتجاه منذ عقود مضت، وتزايده المطرد خلال السنوات الأخيرة الماضية، فقد وطدت "بكين" سيطرتها على دول أخرى في آسيا الجنوبية، والاستثمار فيها بدءً من باكستان وحليفتها التقليدية نيبال وصولاً إلى سيريلانكا وبنجلاديش وميانمار. وفي هذا الإطار أيضاً، يجب الإشارة إلى أن كل من العاملين الأمريكي والباكستاني مثلاً متغيراً جوهرياً ذات تأثير على العلاقات الهندية الصينية في اتجاه معاكس، ففي حين عبرت الصين عن مخاوفها من التقارب الهندي الأمريكي الذي انتهى إلى اتفاقية التعاون النووي المدني بين الهند والولاياتالمتحدة، كان للتحالف الصيني الباكستاني نفس الأثر من القلق على الجانب الهندي. أزمة "سقف العالم" شهدت العلاقات بين البلدين تدهوراً كبيراً بدءً من عام 1959 بسبب المشاكل الحدودية وقضية التبت، التي تعد من أخطر المشاكل التي لا تزال تعكر صفو العلاقات بينهما، وتسببت في اندلاع الحرب عام 1962. وعلى الرغم من توقيع البلدين اتفاقيتي سلام في منطقة الحدود الفاصلة بينهما المعروفة باسم "خط السيطرة الفعلي" في عامي 1993، و1996، إلا أن مشكلة الحدود بين الصين والهند في تلك المنطقة المتنازع عليها حولت معها التفاؤل الهندي في توطيد علاقاتها الآسيوية إلى كابوس. وتجدد الأمر من جديد مع اتهام مصادر حكومية هندية لوحدات من الجيش الصيني اتخذت مواقع لها في منطقة نائية في أعالي سلسلة جبال الهملايا "سقف العالم" يتنازع البلدان السيادة عليها. وكرد فعل سريع من الجانب الهندي، صرحت مصادر محلية هندية بأن قوة تابعة لحرس الحدود الهندي أنشأت هي الأخرى معسكراً لها على مسافة 300 متر من المعسكر الذي أقامه الصينيون. شد وجذب وفي حين تسعى الصين إلى تنمية التفاهم مع الهند وعدم التورط في مشكلات جنوب آسيا بشكل مباشر، ترغب الثانية أيضاً في إيجاد صيغة التوازن التي تعتبر من تقاليد الدبلوماسية الهندية فى علاقاتها مع القوى الكبرى في العالم، كما أن ظروف الهند الداخلية خصوصاً موقفها في الولاياتالشرقية وظهور عدد من النزاعات الانفصالية بها يدفعها إلى تحسين العلاقات مع الصين ولو بشكل مؤقت. وفي هذا السياق، قالت المتحدثة باسم الخارجية الصينية "هوا تشونينج" تعليقاً على اتهامات الجانب الهندي الأخير على خلفية نزاع الحدود "إن قواتنا تقوم بدوريات على الجانب الصيني من خط السيطرة، ولم تعبر الخط". وعلى الرغم من وجود هذا الشد والجذب على خلفية مشاكل ترسيم الحدود، إلا أنه لا يمكن إهمال جوانب الاهتمام المشترك بين الهند والصين في الوقت الحاضر، والتي برزت أحد جوانبها في رغبة العملاقين الآسيويين لوضع حد لنظام القطبية الأحادية والهيمنة الأمريكية، باعتبار أنه ليس في صالح أي منهم، بالإضافة إلى التعاون في القضايا المتعلقة بمكافحة الإرهاب لما يمثله من خطر على كل منهما، وهو ما دفع البلدين إلى إقامة جماعة عمل ثنائية مشتركة لمكافحة ظاهرة الإرهاب الدولي، والاتفاق على تبادل المعلومات والاستخبارات حول كيفية التعامل معها. سيناريوهات محتملة وبعد النظر في مواطن التوافق والخلاف في العلاقات الصينية الهندية، يصعب الجزم بسيناريو محدد يمكن أن تتبعه الجارتان، نظراً لتعقد تلك العلاقات وخروجها من الحيز الثنائي الضيق إلى الإطار الإقليمي الواسع الذي تتعدد فيه المؤثرات. وعليه فإن أخذنا بالخيار السلمي الذي يعتمد على القناة الدبلوماسية الناعمة، نكون أمام سيناريو أول يرتبط بمدى نجاح البلدين في حل الخلاف سلمياً من خلال القنوات الدبلوماسية، وذلك من خلال الآليات التي تتضمنها الاتفاقيات الثنائية الموقعة بين الجارتين، خاصة وأن الماضي القريب شهد مثل هذه الأحداث بين الحين والآخر. وقد تتبادر الدلائل على ذلك خلال ما أعلن عنه وزير الخارجية الهندي "سلمان خورشيد" بأن القادة العسكريين المحليين من البلدين اجتمعوا لحل الخلاف. أما السيناريو الآخر، فيندرج تحت احتمال تصاعد المواقف على الجبهتين مع رؤية مراقبين بأن توغل القوات الصينية هذه المرة وصل إلى عمق كبير داخل الأراضي الهندية، فضلاً عن رؤية المحللين على الجانب الآخر الخاصة بأن الهند انتقلت إلى خط الدفاع النشط والعدواني، مقارنة بالوضع السابق الذي كان يتسم بالدفاع السلبي، وتحول لهجة الهند العسكرية من دفاعية إلى نشطة وعدوانية. وعلى الرغم من عدم استبعاد هذا الخيار إلا أنه يصعب تطبيقه على أرض الواقع الأرض مع إدراك الهند صعوبة إعداد العدة لخوض حرب على جبهتين نتيجة احتمالية تحالف الخصمين العسكريين في الجبهتين الشرقية والغربية بين الصين وباكستان، مما يشكّل تحدياً إستراتيجياً كبيراً أمام الهند، وهو ما جعل المحللين الهنود يتوقعون أنه إذا حدث صراع مسلح بين الهند والصين في المستقبل، فمن المرجح أن تقدم باكستان المساعدة العسكرية للصين والعكس. وبناءً على ما سبق فإن ثمة سيناريو ثالث ترجحه الآونة الأخيرة، ويتمثل في عدم التصعيد العسكري وفقاً للسيناريو الأول وعدم حل الخلاف بشكل سلمي وفقاً للثاني، فبينما يسود الاستقرار على الصعيد الإستراتيجي، تبدي الصين عدوانية سياسية ودبلوماسية وعسكرية ملحوظة على الصعيد التكتيكي تؤكده مواقفها المتصلبة من دعاوى ترسيم الحدود وإنهاء الخلاف بشكل كامل، وهو ما أدى إلى الشعور بالقلق إزاء النوايا المستقبلية للصين رغم ازدهار العلاقات التجارية بين البلدين. وفي كل الأحوال، يتعين على الدبلوماسية الهندية أن تضمن عدم الزج بقواتها المسلحة لمواجهة خصمين عسكريين في آن واحد، ولذلك ينبغي عليها أن تبحث عن تحالف عسكري، رغم أن عدم الانضمام إلى الأحلاف العسكرية من العناصر الأساسية لسياستها الخارجية.