في عام 440 هجريا / 1048 ميلاديا زار القاهرة الرحالة والشاعر والفيلسوف الفارسي ناصر خسرو وسجل في إعجاب ما رآه وشاهده في القاهرة الفاطمية وما حوته من بساتين وقصور ومساجدها الجامعة الخمسة عشر "أما المساجد التي لا تلقي فيها خطبة الجمعة فلم يكن لها حصر".هكذا كتب خسرو. ودارت الأيام دورتها وطوت صفحة الفاطميين ليأتي عصر الأيوبيين ومن بعدهم عبيدهم المماليك ، واندثرت مساجد الفاطميين البديعة , وانكمشت أعداد المساجد والجوامع التي لم يكن لها حصر إلى ما يعد على أصابع اليد ، بيد أن ما تبقي يدل على عظمة ما شيده الفاطميون وروعة ما بنوه ودقة ورهافة ما نقشوه.. ووصف إبداع ما تركوه يحتاج إلى أسفار وأسفار من المجلدات.
الآن ما تبقي من مساجد وجوامع تحكي قصة الفاطميين ينحصر في الأزهر (وإن كانت قد نالته العديد من الترميمات والإصلاحات) وجامع الجيوشي والصالح طلائع والجامع الأقمر. والأخير هو محط رحلتنا اليوم. مكانه شارع المعز الأثري.. مساحته صغيرة.. بيد أنه عوض صغر المساحة بروعة الواجهة التي شغفت قلوب الأثريين والعاشقين للحضارة والفن الإسلامي. الأقمر بناءه الوزير المأمون بن البطائحى بأمر من الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله أبى على منصور سنة 1125 ميلاديا. والمأمون هو أبو عبد الله محمد بن فاتك البطائحي ، والبطائح هي موضع بين واسط والبصرة في أرض العراق ، كما عُرف باسم عبد الله الأقمر. ربما جاء اسم الأقمر من اسم صاحبه عبد الله الأقمر .. أو لأن حجارته البيضاء كانت تتلألأ تحت أضواء قمر القاهرة المعزية.
وقد استحق الأقمر بجدارة أن يدخل موسوعة الأوائل في فن العمارة الإسلامية.. فهو أول مساجد مصر الإسلامية التي صممها المهندس المصري العبقري لكي تتفق واجهتها مع تخطيط الشارع التي تطل عليه..كيف ذلك؟! الأقمر يقع على ناصيتي شارعين في ركن يشغل زاوية حادة..ولهذا كان تخطيطه ينحصر في مستطيل غير منتظم الأضلاع من الخارج..لكن حدوده الداخلية جاءت لترسم مستطيلا منتظم الأضلاع طوله 28 مترا وعرضه 17.5 مترا.. ونجح المهندس المصري في ذلك بحيلة هندسية جميلة.. وذلك بإحداث ازورار في الواجهة لتناسب اتجاه الشارع.. واستغني المهندس عن ضرورة أن تكون الواجهة موازية لجدار القبلة.. وجعلها منحرفة لتساير حركة الشارع.. واستغل الفراغ الناتج عن الانحراف في إنشاء ثلاثة غرف صغيرة واحدة إلى يمين الداخل واثنتان إلى يساره. الآن وأنت في رواق القبلة لن تجد لافتة تزعجك "القبلة إلى اليمين قليلا أو إلى اليسار قليلا"..ليقف المصلون في خط مستقيم تتلوه خطوطا مستقيمة بلا اعوجاج..فالمسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشده بعضه بعضا. هذا الانحراف في الواجهة شاع بعدها في العمارة المملوكية.. لاحظته في مسجد الماس الحاجب.
الواجهة ونقوشها.. مازلنا في خارج الأقمر.. فالواجهة تأبي إلا أن تسجل نفسها كأول واجهة لمساجد مصر تحظي بزخارف معمارية من دلايات ونقوش خطية ونباتية محفورة في الحجر. وهي لا تخلو من رموز شيعية.. فالدوائر الزخرفية التي تعلوها تحمل اسم الإمام على بن أبي طالب كرم الله وجهه..وشكل الدائرة له معني في الفن الإسلامي كما يخبرنا الأديب المبدع جمال الغيطاني..فالدائرة هي الشكل الأتم لدي القدماء..فالوجود كله في حركة دوران دائمة..وكل شيء يدور حول المركز ..القمر يدور حول الأرض..والأرض حول نفسها ؛ مرة كل 24 ساعة وحول الشمس كل 365 يوما..وكل كواكب المجموعة الشمسية تسبح دائرة حول الشمس..والشمس حول مجرة درب التبانة..والمجرة حول مركز الكون..." كل في فلك يسبحون".
ظاهرة الشموس التي تزين واجهة جامع الأقمر جذبت انتباه الدكتور أحمد فكري أستاذ الحضارة الإسلامية في كتابه "مساجد القاهرة وآثارها" ؛ والذي سطره عام 1965، فكتب يقول.. " الظاهرة الأولي للزخرفة في واجهة مسجد الأقمر هي الإشعاعات من مركز يمثل الشمس في أغلب الأحيان.. وإذا اتجهت الأنظار إلى الطاقة الكبرى التي تعلو الباب.. لاحظت أنه يتوسطها في دائرة صغيرة اسما محمد (صلي الله وعليه وسلم) وعلى (رضي الله عنه) تحيط بها ثلاث حلقات ، نُقش على الحلقة الوسطي منها بالخط الكوفي ما نصه.. بسم الله الرحمن الرحيم " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ".. وكأنما أريد بهذه الشموس المضيئة أن تعبر عن قوله تعالي " جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً ". .. واجهة الأقمر ، والتي تتزين وحدها بسبعة أشكال لشموس مختلفة الأحجام ، تشارك جامعي الجيوشي والحاكم بأمر الله في بروزها خارج الجدار.. وإن كان هذا البروز يبدو أكثر في الحاكم إذ أنه يتخذ هيئة برجين ، يتوسطهما ممر يؤدي إلى باب..لكن البرجين في الأقمر قد انكمشا ليتناسق مظهرهما مع الواجهة.
المئذنة والميضأة التي كانت ومن الواجهة التي وصفها الدكتور أحمد فكري بأنها " تحتوي من الزخارف الإسلامية المنوعة التي تجعل منها تحفة فنية فريدة في عمارة القاهرة في العصر الفاطمي" نشد الرحال إلى المئذنة التي تشق السماء.. هنا في الأقمر ليس لها قيمة.. فالمئذنة الفاطمية الأصلية اندثرت شأنها شأن أخواتها من مآذن الفاطميين التي احتفظ لنا الدهر باثنين في جامع الحاكم بأمر الله ليكونا شاهدين على ما وصل إليه الفاطميون من مهارة وإتقان وبديع صنع حتى كادت الحجارة تنطق من فرط روعتها.
بعد طوي الدهر كتاب الدولة الفاطمية على يد صلاح الدين الأيوبي 1171 ميلاديا تعرضت القاهرة الفاطمية للإهمال..لم يقم الحكام الجدد بهدم آثارها.. وإنما تركوها بلا عناية..فاختفي القصر الشرقي والقصر الغربي الذي شهد المؤرخون بروعتهما.. وأغلقت المساجد الفاطمية أبوابها..واختفت أصوات المرتلون للقرآن والساجدون والراكعون..وعشش فيها السكون.
وجاء عصر المماليك.. لتفتح مساجد الفاطمية الناجية من الاندثار أبوابها وتدب فيها روح الحياة..ولكن هذه المرة لخدمة المذهب السني.. فاصطف المصلون لأداء أول صلاة جمعة في مسجد الصالح طلائع عام 1252 ميلاديا أيام السلطان المملوكي المعز أيبك التركماني. وجامع الأزهر الذي طواه النسيان منذ سنة 565 هجريا / 1169 ميلاديا بأمر من صلاح الدين استبشرت أروقته فرحا بالسلطان بيبرس الذي شرع في تجديدها وعمارتها وبيض أركانها وأصلح سقوفها عام 665 هجريا / 1266 ميلاديا.
أما الأقمر فقد تأخرت عنه يد التجديد حتى أهلت أيام أول سلاطين المماليك البرجية السلطان الظاهر برقوق ( 1382- 1399).
المؤرخ تقي الدين أحمد بن على المقريزي يذكر في كتابه "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" ما نال الأقمر من إصلاح.. " فلما كان في شهر رجب سنة تسع وتسعين وسبعمائة ، جدده الأمير الوزير المشير الأستادار يلبغا بن عبد الله السالمي ، أحد المماليك الظاهرية ، وأنشأ بظاهر بابه بالبحري حوانيت يعلوها طباق ، وجدد في صحن الجامع بركة لطيفة يصل إليها الماء من ساقية ، وجعلها مرتفعة ينزل منها الماء إلى من يتوضأ من بزابيز نحاس ونصب فيه منبرا". انتهي الوزير المملوكي من إصلاحاته في الأقمر قبل أن يهل هلال رمضان .. وفي هذا الشهر المبارك من عام 799 هجريا آن للأقمر أن يتحول إلى جامع تؤدي فيه صلاة الجمعة.. فقد نصب السالمي منبرا بجوار المحراب ارتقاه أحد خطباء الحنفية.. كذلك بني مئذنة فوق مدخله البحري وبيض الجامع كله.
ومن الطريف أن التحسينات التي أدخلها السالمي لم تنل استحسان المقريزي..فذهب إلي الأمير ليبلغه بانتقاده.. وسجل الحوار الذي دار بينهما في كتابه "الخطط".. "قلت له : قد أعجبني ما صنعت بهذا الجامع ، ما خلا تجديد الخطبة فيه وعمل بركة الماء ، فإن الخطبة غير محتاج إليها هاهنا لقرب الخطب من هذا الجامع ، وبركة الماء تضيق الصحن ، وقد أنشأت ميضأة بجوار بابه الذي من جهة المخلق.. فاحتج لعمل المنبر بأن ابن الطوير قال في كتابه "نزهة المقلتين في أخبار الدولتين " عند ذكر جلوس الخليفة في المواليد الستة: ويقدم خطيب الجامع الأزهر فيخطب كذلك ثم يحضر خطيب الجامع الأقمر ويخطب كذلك.. قال: فهذا أمر قد كان في الدولة الفاطمية ، وما أنا بالذي أحدثته ، وأما البركة ففيها عون على الصلاة لقربها من المصلين".
لم ينجح المؤرخ في إقناع الوزير.. واستمرت الخطبة والميضأة في الأقمر سنوات..حتى تحقق رجاء المقريزي بإزالتهما بعد سنوات ليست بالطويلة.. ففي عام 815 هجريا رأي الفقهاء المسئولون عن الجامع هدم المئذنة لميل حدث بها.. وأبطلوا الميضأة لإفساد الماء بمروره جدار الجامع القبلي.. هوت إلى الأرض مئذنة السالمي واختفت الميضأة.. بيد أن المصلين مازالوا يترددون على الأقمر يوم الجمعة للاستماع في خشوع لخطبة الجمعة حتى وقت كتابه المقريزي لكتابه. ومضت الأيام والسنوات يطوي بعضها بعضا حتى قام سليمان أغا السلحدار – وكما يقول الجبرتي – بتجديد جامع الأقمر في عام 1236 هجريا..
نغادر الواجهة البديعة الفريدة ونخطو إلى قلب الأقمر.. الصحن ليس مربعا تماما..وإنما هو إلى المستطيل أقرب..وتطل عليه من كل جانب بائكة من ثلاثة عقود ترتكز كل منها على عمودين منفصلين في الوسط وعلى دعامتين مشتركتين في أركان الصحن. رواق القبلة هو أكبر الأروقة.. المحراب من الرخام الأبيض وفوقه لوحة رخامية سجل عليها الأمير يلبغا السمالي العمارة التي أجراها ونصها " بسم الله الرحمن الرحيم "فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رحمت (صحتها رَحْمَةِ ) اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " أمر بعمل المنبر والمنارة وغيره بعد اندراسه في أيام مولانا الملك الظاهر أبو سعيد برقوق حرس الله نعمته العبد الفقير إلى الله تعالي أبو المعالي عبد الله يلبغا السالمي الحنفي الصوفي لطف الله به في الدارين وجعله ... في شهر رمضان المعظم سنة تسع وتسعين وسبعمائة وكان بني (وصحته بناء ) هذا الجامع في أيام الخليفة الآمر بأحكام الله بن المستعلي بالله في سنة تسع عشرة وخمسمائة من الهجرة النبوية".