مما لا شك فيه أن الإسلام راعى الظروف الاضطرارية منذ اللحظة الأولى في التشريع فلم يغفل حالة الإكراه أو العجز أو المشقة ونحو ذلك مما يطرأ على الحالة الاعتيادية فرسم حدود التعاطي مع الصورة الجديدة وفق أحكام خاصة تزول مع زوال السبب جاء في القرآن الكريم ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْر اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقوله {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وقول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث [ إن الله عفا لكم عن ثلاث عن الخطأ والنسيان وما استكرهتم عليه ] وفي حديث آخر }إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه{ فالظروف الاضطرارى بمفهومة الشامل يعني نشوء واقع محيط غير اعتيادي يشكل خطراً على الدين أو النفس أو العرض أو العقل أو المال مما يتعين أو يباح معه ارتكاب المحظور أو ترك الواجب أو تأخيره دفعاً لهذا الخطر بغلبة الظن.
ولا يكاد يخفى على أحد أن المسلمين اليوم يعيشون حالة ضرورة تدفع إلى استعمال هذه الأحكام الخاصة لما هم فيه من استضعاف وما عليه النظام الدولى من جبروت .
ومن الجدير بالرصد ما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من حالات ضرورة استعملت فيه هذه الأحكام فصارت تشريعاً للأمة تلجأ إليها في الحالات المماثلة ، ومن هذه الأمثلة ما يلى :
إعتماد سرية الدعوة إذا خشى النبي صلى الله عليه وسلم على النواة الأولى من تعديات قريش فبدأ في دار الأرقم يلتقى بأتباعه سراً ويعلمهم دينهم .
- السماح بالهجرة إلى الحبشة فرارا بالدين حيث كانت قريش تضطهد المستضعفين من المسلمين فكان في ذلك الجواز الشرعى لمن يتعرض للفتنة في دينه .
- قبول الجوار في حماية الكافر حيث صنع النبي ذلك عند عودته من الطائف بعد أن رده أهلها ولم يستجيبوا لدعوته و أراد أن يدخل إلى مكة فأرسل في طلب الجوار من بعض سادة قريش فأجابه المطعم بن عدى إلى ذلك ونزل في جواره.
- قبول التحالف مع اليهود في المدينةالمنورة داخل إطار عام يرأسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه من القواعد والنظم التى ترتب للعلاقة بين الفريقين ومن المعلوم أنه ببعثة النبى صلى الله عليه وسلم لايسع أحد من اليهود أو النصارى إلا إتباع و الإ كان كافراً .
ترك النبى صلى الله عليه وسلم نقض الكعبة و إعادة بنائها على قواعد إبراهيم عليه السلام مخافة وقوع الفتنة نظرا لأن القوم حديثو عهد بإسلام فاضطر إلى الإبقاء عليها .
ترك قتل المستحق للقتل كحالة عبدالله بن سلول لئلا يقال أن محمدا يقتل أصحابة فيترتب على ذلك الصد عن الدخول في الإسلام فأوقف إجراءت التنفيذ التى أزمع عبدالله بن سلول على تنفيذها بقتل والده إن أمره الرسول بذلك .
جواز أكل الميتة للمضطر قال تعالى {فَمَنِ اضطر في مَخْمَصَةٍ غَيْر مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ{
تأليف بعض الناس بالمال وهم غير مستحقين له ولكن دعت الضرورة إلى ذلك كفا الشرهم أو كسبا لهم في صف الإسلام وفتحا لأبواب الدخول في الدين من أتباعهم ولقد ألف النبى صلى الله عليه وسلم عددا من الناس منهم الأقرع بن حابس والعباس بن مرادس .
- بذل بعض الأموال بهدف كف الشر لبعض الناس وإخراجهم من الصراع ويظهر ذلك حينما عرض الرسول صلى الله عليه وسلم على الصحابة فكرة مصالحة غطفان على ثلث ثمار المدينة بهدف التخفيف عنهم ولكن الصحابة أعلنوا عن استعدادهم لتحمل التبعات وبالتالى لم تنفذ الفكرة ولكن يبقى الفعل جائزاً .
- عقد الرسول صلى الله عليه وسلم معاهدة سلام مع قريش عشر سنين ومعلوم أن قريشا كانت مشركة معاندة صادة عن سبيل الله ولكن فعل الرسول المبيح لذلك بالوحي كان رعاية لبعض المؤمنين من النساء والرجال الذين لم يهاجروا قال تعالى (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ)
- إباحة غيبة المدين المماطل القادر على السداد جاء في حديث }الى الواجد يبيح غيبته وعقوبته{
- يجوز إتلاف شجر الأعداء وتخريب ديارهم حيث فعل النبى صلى الله عيه وسلم ذلك مع بني نضير قال تعالى (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) .
جواز فقاً عين من اطلع على الناس في بيوتهم بغير إذنهم جاء في الحديث المتفق عليه }لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاه فققأت عينه ما كان عليك جناح{ ولقد قام النبى صلى الله عليه وسلم يحمل عودا ليفقأ به عين رجل ينظر إليه من ثقب يتلصص.
- أجاز النبى صلى الله عليه وسلم التلفظ بكلمة الكفر مادام القلب مطمئنا بالإيمان عندما تعرض صحابى للقتل على يد الأعداء {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان{
- إجازة النبي صلى الله عليه وسلم لزوجة أبي سفيان أن تأخذ من ماله بغير إذنه ما يكفيها وولدها بالمعروف لأن أبا سفيان كان شحيحاً .
جواز إخفاء المعلومات عن الجند مخافة الفت في العضد حيث أرسل النبى رجلا من أصحابه ليأتية بخبر الأحزاب وطلب منه أن يقول له بعض الكلمات ليعرف الحقيقة الأمر وحده فلما عاد الصحابي وفهم النبى أن القوم قد تمالئوا كبر النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت معنويات الجند وظنوا أن العدو .
أجاز النبى صلى الله عليه وسلم للدائن أن يحط نسبة من ماله عند المدنين ليتعجل قبض المال قبل أن يحل الموعد ، كما فعل عند إجلاء بعض اليهود . فقالوا لنا أموال تستحق التحصيل بعد فترة فقال}ضع وتعجل{ - أجاز النبي صلى الله عليه وسلم مدارة أهل الشر و السوء لتقليل شرهم حيث لما طرق الباب أحد الناس وقال اسمه قال الرسول لمن حوله بئس أخو العشير فلما دخل ألان له النبي القول فلما انصرف سأله أهل البيت عن هذا الصنيع فقال [نحن نبش في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم{ .
أجاز النبب المعاريض وقال [إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ] وكان يورى بالغزوة ويمضى في طريق آخر ولما سأله الرجل الذي كان عند البئر ممن أنتم ولم يجبه بالجهة بل أجاب من ناحية أخرى وهي أنه خلق من ماء وكان صادقاً في إجابته.
أجاز النبى صلى الله عليه وسلم الكذب في مواضع ثلاث على الأعداء عند الحرب وعلى الزوجة فلا يصارحها بما يسوء وفي الصلح بين الناس لتحقيق الوفاق بين المسلمين ونزع البغضاء والشحناء.
وأكتفى بهذه النقاط في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يفوتني أن اشير إلى أن الظروف الاضطراري قد تمت مراعاته أيضاً في عهد الخلفاء الراشدين مثل إيقاف حد السرقة على السارق في عام المجاعة ، وأجيزت عقود السلم والاستصناع وكذلك تضمنين الصناع وهم في الأصل لا يضمنون لأنهم مؤتمنون ولكن الإمام على قال [لا يصلح الناس إلا هذا ] ولقد سار على هذا النهج سلفنا الصالح من الأئمة الأعلام حيث قدروا الحالة الضرورة بقدرها و أفتوا في قضايا كثيرة عالجوا فيها هذه الحالة ويتضح ذلك من خلال تراث فقهي كبير للمذاهب الفقهية صالح للأخذ والتطبيق ولقد رصد الفقهاء تحت حالات الضرورة فروعاً عديدة منها الإكراه الملجئ والسفر و العجز وعموم البلوى و النسيان والجهل والمشقة وسد الذريعة وفتحها والدفاع الشرعي والمصلحة المرسلة والعرف واسترداد الحق والاستحسان .
وتندرج تحت هذه الفروع أمثلة كثيرة لاتكاد كلها تخدم حالة الاضطرار التى يتعرض لها الإنسان في حياته وأيضاً المجتمع المسلم الذي يتعرض كل يوم إلى جديد .
ولعل ذلك يقودنا إلى أن نذكر طرفاً مما نتعرض له ويندرج تحت باب الضرورة ومن ذلك :
دفع الصائل بما يندفع به وبذل المال لاستنقاذ الأسرى من سجون الكافرين والظالمين .
وقبول التحالف مع القوى المختلف معها في العقيدة دفاعاً عن الحرمات .
وقبول اللجوء السياسى لدى الدول الأجنبية فراراً بالدين .
وارتداء زى الكفار تخفياً من ظالم .
وجواز الاعتراف تحت الإكراه الملجئ .
والقبول بنظام حكم ظالم ومساندته في مواجهة من هو أشد منه بطشاً .
وجواز ملاينة الظالمين كفاً لشرهم .
وجواز السكوت عن الإعلان حكم شرعي مخافة الضررالشديد .
وجواز جمع الأموال من الأغنياء إذا لم تكف أموال الزكاة والخراج والصدقات لسد احتياجات بيت المال .
وجواز الصلاة في البيت وترك صلاة الجماعة إذا خاف على نفسه أو أجبره الحاكم على ذلك .
وجواز حلق اللحية إذا خشى على نفسه الحبس .
وإباحة السفاتج وهي أن يقرض الإنسان شخصاً مالاً ويؤديه المقترض في بلد آخر .
وجواز التعامل بالربا من أجل شراء القوت الضروري أو السلاح دفاعاً عن البلاد إذا انعدمت إمكانية القرض الحسن.
وجواز ترك إنكار المنكر في بلاد الكفار .
وجواز قبول تكليف الولايه من ظالم بهدف تخفيف الإعباء عن المسلمين والإ فلا يجوز .
وجواز إيداع الأموال وسحبها من البنوك الربوية مادام صاحب المال لا يتعامل بالربا.
وجواز عقد البيع الشراء بالتليفون أو رسائل الاتصال الحديثة .
وجواز عدم تطبيق بعض أحكام الشريعة للعجز عن ذلك مع السعى للتطبيق الكامل متى أمكن ذلك .
وجواز التظاهر و العصيان المدني للمطالبة بالحقوق المهضومة وخاصة ما يختص بالدين .
وجواز أقرار الحاكم المستولي على السلطة إذا كان يقيم الشريعة .
وجواز خطف جنود الأعداء والمساومة عليهم لإطلاق سراح المسلمين الأسرى .
وجواز التمثيل بجثث الأعداء إذا مثلوا بجثث موتانا والصبر أفضل .
وجواز حصار الأعداء ومنع الطعام عنهم والشراب لحملهم على التسليم ،
وجواز التضحية بالنفس وإحداث النكاية بالأعداء إعلاء لكلمة الله تعالى .
وجواز تولية المفضول مع وجود الفاضل مع السعى للإصلاح ما أمكن .
وجواز خروج النساء للحج بلا محرم مع وجود الصحبة الآمنة وجماعة النساء .
وجواز الأكل للمقمين في دول الملاحدة مع عدم وجود مطاعم إسلامية تراعى استبعاد كل ماهو محرم في الشريعة .
وجواز السفر بالمصحف إلى بلاد الكفار مادام المعلوم عنهم أنهم لايصادرون المصاحف ولا يتعرضون لها بالإهانة والإ فلا يجوز .
وجواز الأكل من طعام الغير عند الضرورة مع ضمان القيمة وسدادها.
وجواز مجالسة أصحاب المعاصي كشاربي المخدرات والخمور بهدف دعوتهم إلى التوبة وترك ماهم عليه والإ فلا يجوز .ويباح لصاحب الحق استرداد حقه المغتصب من غاصبه عنوه .
ويباح للمظلوم أن يجهر بالسوء من القول في شأن من ظلمه .
وجواز توليه القضاء للمقلد عند عدم وجود المجتهدين مع العمل على استكمال النقص عندهم .
وجواز الانتقال إلى الدعوة الفردية إذا انعدمت فرصة الدعوة العامة العلنية .
وجواز خروج المرأة للتصويت الانتخابي بغرض نصرة من يعلى شأن الشريعة الإسلامية مع مراعاة مرافقة المحرم لها لصيانتها ورعايتها .
وجواز مداراة أهل الشر دفعاً لشرهم وتقليلا لعدوانهم .
وجواز حجب المعلومات الضارة بالروح المعنوية عن الجنود في المعركة حتى لا يفت ذلك فى العضد.
وجواز إسقاط فريضة الجهاد للعجز مع استمرار بذل الوسع لاستيفاء القدرة .
وجواز ترك المستحب دفعاً للشقاق وتحقيقاً للألفة ،
وجواز فرض الضرائب على المواطنين عند حاجة بيت المال إلى ذلك مع البدء بالأغنياء.
وجواز كتمان العلم الشرعى عمن يسئ استعماله .
وجواز عقد الإمامة موقوتاً بمدة معينة عند عدم وجود العدل أملاً في تغيير قريب يرفع البلاء .
وجواز تأخير البيان في مسالة عن وقت الحاجة لمن عجز عن إظهار حكمها الشرعى في الحال .
وجواز إجراء الانتخابات لاختيار نواب الأمة وممثليها .
وجواز الاستفتاء على تطبيق الشريعة الإسلامية خاصة أن الشعوب المسلمة تختار الإسلام على غيره من النظم الوضعية .
وجواز بذل النفس دفاعاً عن العرض أو الأرض أو المال .
وهكذا نكون قد استعرضنا بعض ما يدخل تحت باب الضرورة بمفهومها الواسع والتى تفتح الآفاق أمام التعامل الواقعى مع الأحداث والمجريات التى يحتاجها المسلمون في العصر الحديث .
ولا يفوتني أن أنبه إلى وجوب صدور هذه الفتاوى عن العلماء لأن العامى لا يمكنه أن يحدد الظرف الاضطراري الذى تطبق فيه أحكام الضرورة الشرعية ولا يعرف أنها تقدر بقدرها وتزول بزوال أسبابها فإن تركنا الأمر له فقد يثني على ظالمة مخافة شره ثم يواصل الثناء عليه والدعاء له بعد انتهاء حالة الضرورة دون أن يدرك أنها انتهت !!
وهكذا يقع كل من ليس لديه مكنه شرعية في المزالق وهو يظن أنه يتحرى الصواب فعلى كل من أراد أن يصيب الحق ويتبع سبيل المؤمنين أن يراجع أهل العلم في كل شئونه حتى يكون على بصيرة من أمره .
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد .
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أو القائمين عليه