* مبارك ربى القطط السمان على حساب شعبه الجائع * صفحات كاملة لحالات التعذيب وانهيار القيم وتفشي الفقر * الثورة فشلت .. والجيش والإسلاميون قفزوا فوقها * برادلي ومزاعم "الشذوذ" و"ثورة الجياع" و"شيطنة الإسلاميين"!
كتبت – شيماء عيسى
عاش المراسل الصحفي البريطاني المخضرم "جون آر برادلي" بحي شبرا منذ 1999؛ في هذه الأثناء استطاع الرجل أن يقترب من المصريين الحقيقيين، وقد تنقل في ربوع البلاد وخاطب شخصيات بارزة ، ونقل مشاهداته بكتاب أثار انتباه العالم وحمل اسم "في قلب مصر .. أرض الفراعنة على شفا الثورة" . الكتاب صدر بأمريكا عام 1998 ومنعت النسخ التي سعت الجامعة الأمريكية بالقاهرة لإدخالها مصر من قبل الأمن، خاصة أنه كان يهاجم بشراسة ووضوح نظام مبارك الفاسد ويتنبأ بثورة عارمة ضده في وقت مبكر نسبيا . ولم تمض غير شهور حتى سُربت نسخ أخرى من الكتاب وترجمت أيضا. صفحات الكتاب موجعة حقا ؛ فهي تنقل صورة قاتمة تماما لأوضاع مصر في عصر مبارك، استقاها المؤلف من مقابلاته الشخصية . لكن الكاتب – وللغرابة – نراه يسقط بتعميمات كثيرة مستغربة؛ فهو على سبيل المثال يعتقد أن المصريين مستعدون للتفاهم مع إسرائيل في ظل معاهدات عادلة! . وبرادلي رغم نصيحته لأمريكا بتجنب التدخل العسكري في الشرق الأوسط، والذي أدى لاحتقان الشعوب ضدها، ورغم اعترافه بأن أمريكا دعمت أحيانا أنظمة ديكتاتورية فاسدة، إلا أنه يناقش ذلك من باب النصيحة لبلد يراها تقدم الديمقراطية للعالم وليست معول هدم في المنطقة يقتل ويشرد بلا ضمير ! يصم "برادلي" جماعة "الإخوان المسلمين" والسلفيين بأنهم أجنحة إسلامية متطرفة وأن المصريين يرونهم هكذا ! بشكل يحمل تعميما مبيتا من قبله .. وفي الكتاب تجد المؤلف يعتبر أن الشريعة الإسلامية تقوم على تبجيل القائد ومبايعة الإمام، ويرى أن نتيجة ذلك يمكن أن نشاهدها في السعودية وأثرها على الثقافة والعلوم ! ومن الأمور المشابهة أن يتحدث المؤلف عن شباب مصر بأن اللواط منتشر بينهم نتيجة تأخر الزواج ، أو حين يتحدث عن زواج نحو نصف شباب مدينة الأقصر من أجنبيات ووقوع البعض الآخر من هؤلاء في الشذوذ !. كما نرى المؤلف يتحدث عن الصعيد باعتبار أن أهله يصفون نزاعاتهم بمعزل تماما عن الشرطة !. الكاتب أيضا اعتبر أن الحاجة الاقتصادية وليست الديمقراطية هي ما دفعت المصريين للثورة ! وربما يجافي ذلك الحقيقة التي يؤكدها الكتاب نفسه حين يتحدث عن غضب المصريين لكرامتهم المهدرة في عصر مبارك . أخيرا .. هناك وجهة نظر حملها الكتاب، هي محل جدل سائد حتى الآن بين المثقفين، وقد انضم برادلي للتيار الذي يحن لمصر الملكية أكثر من مصر بعد ثورة يوليو 1952 ؛ مؤكدا أن هيمنة العسكريين على الحكم أفشت الفساد والقهر وغيبت الثقافة والجمال، رغم اعترافه بإنجازات عصر عبدالناصر بالتحديد. لكن وبرغم كل ذلك ، فالكتاب يضم رحلة هامة ومثيرة لكل من يريد خلفيات الثورة على نظام مبارك .. هل نجحت الثورة ؟ ليست كل ثورة شعبية تحسن مستقبل الشعوب التي قامت بها، هكذا يرى مؤلف الكتاب، ويستدل على ذلك بأن الثورة الفرنسية أسفرت عن عصر الإرهاب الأعظم، وجاءت ثورة روسيا بكابوس ستالين، وجاءت ثورة إيران بنظام الخوميني المتشدد. في حالة مصر ينظر برادلي لما جرى بعد الثورة بأنه "انقلاب عسكري اختطف ثورة شعب" ، وقد اختطفها من بعدهم الإسلاميون باعتبارهم الفصيل الأكثر تنظيما وحشدا ، بينما تعيش الاحزاب "التقدمية" بمعزل عن لغة الشارع .
ويرى برادلي أن الإخوان عادة يتنازلون عن مبادئهم حين يواجهون خيارات صعبة، فهم يهتمون بالشعارات ويرددون نغمة السخط على الخروقات الأخلاقية والثقافية بينما يتغافلون عمدا عن نواحي الفساد الحقيقية ، ويستدل المؤلف على ذلك بأدائهم البرلماني 2005 . أخيرا ينقل برادلي ما أكده جمال البنا شقيق مؤلف الجماعة من أن أبناء الجماعة يمتازون بالنزاهة والكرم والعمل الخيري ، لكن نهايتهم ستكون حين يتولون السلطة لأنهم ليسوا أهلا لها ودائما يتعاملون بمنطق الاستحواذ وليس المشاركة وتغيب الديمقراطية عن عالمهم وحكمهم! بين الملك والرئيس لا ينكر مؤلف الكتاب انجازات نظام عبدالناصر مثل تحرير مصر من السيطرة الأجنبية وتوسيع نطاق التعليم والعمل الحكومي وتاميم قناة السويس وبناء السد وتوزيع الأراضي، لكنه يعتقد أن نظام مصر قاد البلاد لكارثة عسكرية، بالإشارة لليمن ونكسة يونيو، والتجارب الديكتاتورية الشبيهة بالعراق وليبيا، كما هزأ النظام بكرامة المواطنين على نحو صريح ، واضطهد أصحاب الرأي والعمل السياسي، وقد رقى ناصر المقربين منهم بناء على ولائهم وليس خبرتهم ويرى المؤلف أن النخبة المحيطة بناصر كانت فاسدة ومستغلة لنفوذها. على النقيض، سعى السادات لدعوة الإخوان المضطهدين بالسجون للعودة للبلاد لمواجهة الماركسية التي خلفها عبدالناصر، وانصاع لأمريكا بتوجهات الانفتاح الاقتصادي الذي جاء على حساب الكادحين من أبناء الشعب. وإذا عدنا للوراء ، نجد المؤلف يؤكد انجازات محمد علي وحفيده اسماعيل حيث نهضت البلاد على غرار أوروبا، وإن كان ذلك أدى بين أبناء محمد علي لزيادة مديونية البلاد للخارج، وهو ينقل رأي المعماري سمير رأفت بأنه صحيح أن المصريين عاش قطاع كبير منهم في ظل الفقر في العصر الملكي لكن على الأقل كانت هناك حركة وطنية عظيمة كانت بصدد نقل مصر من دولة احتلها العثمانيون والإنجليز إلى دولة مستقلة .. قبل ان يقطع الضباط الأحرار الطريق عليهم ! ويرى الدكتور أحمد عكاشة، وهو طبيب نفسي مصري بارز، التقاه مؤلف الكتاب، أن المصريين صحتهم النفسية في خطر بسبب غياب حرية التعبير والفقر والزحام والبيئة الديمقراطية بشكل عام التي تسمح بمحاسبة الفاسدين، والأخطر أن وصل المصريون للامبالاة بكل الكوارث التي تهدد حياتهم، وغابت إلى درجة كبيرة روحهم الساخرة والمتسامحة .. الرقص مع الفساد احتلت مصر المرتبة 36 بين 177 دولة فاشلة حول العالم، وفقا لما نشره صندوق السلام بواشنطن 2007. والكتاب بين أيدينا يركز على نحو بارع على عدد كبير من الأزمات الخطيرة التي يعاني منها المصريون؛ فعلى الصعيد الاقتصادي ربى نظام مبارك ما يسميه ب"القطط السمان" وهم طبقة رجال الأعمال والساسة المقربين الذين نهبوا مقدرات الشعب، وعملوا على بيع القطاع العام وطرد العمال. وعن الآثار يؤكد برادلي أنه حتى عام 1983 كانت الآثار المصرية تباع علنا بالمزادات وتنقل على الطائرات، ولا تزال الآثار المصرية محل للنهب خاصة وأن عمليات الجرد نادرا ما تتم بسبب خشية المسئولين عنها من مسائلتهم عن اختفائها، ناهيك عن عمليات التربح التي قادها رجال بالحزب الوطني المنحل من وراء تجارة الآثار حتى أن أحدهم تمكن في عملية واحدة من تهريب محتويات مقبرة كاملة للملك بتاح لسويسرا ! وعن المؤسسات الصحفية القومية؛ فحدث ولا حرج، فوحده ابراهيم نافع كنموذج يعرضه الكاتب ، كان يتقاضى نصف مليون دولار عن رئاسته فقط للأهرام شهريا، ولهذا ليس من المستغرب أن يقوم رؤساء تحرير تلك الصحف بنفاق النظام الذي يغدق عليهم بالعطايا . وفي مصر فقط كانت المبيدات المسرطنة توزع على يد وزارة الزراعة ، وكان رجال الأعمال ونواب الشعب يهربون بقروض بمليارات الدولارات دون ضمانات، و لا يجد غير الموسرين من يعالجهم من الأمراض المتفاقمة. التعذيب لقد شاهد مؤلف الكتاب طفلا قبل دقائق من مفارقته الحياة بعد تعذيبه على يد زبانية قسم الشرطة بقريته بالمنصورة، فقط لأنهم شكوا أنه وأخيه سرقا علب صغيرة للشاي، وكالعادة حاول المسئولون إخراس والدته بإغداق العطايا عليها، وكانت المسكينة كما يعلم كل من يتحدث عن تعذيب على يد الشرطة، أنه يفتح على نفسه بوابات الجحيم . ويضاف للتعذيب الذي يمارس بشكل منهجي بمراكز السجن والاعتقال في مصر، التسليم الاستثنائي للمشتبه في ضلوعهم بالإرهاب من قبل أمريكا ليتم تعذيبهم بدول كمصر لها خبرة بهذا المجال، حتى أن شخصا كممدوح حبيب اضطر للاعتراف بأنه ساعد في تدريب منفذي هجمات 11 سبتمبر بعد أن تعرض لتعذيب وحشي أدى لإصابته بشلل نصفي نقل بعدها مجددا لسجن غوانتانامو. وللأسف ففي عصر مبارك، بلغت ميزانية الأمن الداخلي مليارا ونصف المليار دولار، ما يفوق حجم ميزانيتها القومية للرعاية الصحية ، وبلغ حجم أفراد الأمن 1,4 مليون فرد وهو ما يساوي أربعة أضعاف حجم الجيش . المهمشون في مصر يؤكد برادلي في فصول متلاحقة من الكتاب، أن المسيحيين مضطهدون في مصر، ويستشهد على ذلك بعدم قدرتهم على بناء دور عبادتهم بحرية مماثلة للمسلمين. ويؤكد أن ازدهار تيار ديني متشدد جعل الصوفيين في حالة حرب من أجل الاستمرار، وهم الذين يحبون آل البيت ويقيمون الموالد للذكر والعبادة. والكاتب يعتبر أن كثيرا من الطقوس التي تمارس في الأعياد مستقى من أصول شيعية حين سيطر الفاطميون على الحكم في القرن العاشر ، ويعتقد برادلي أن حسن نصر الله ونجاد يتمتعان بشعبية كبيرة في اوساط المصريين . النوبة، كما يؤكد الكاتب تعد مشهدا دائما للاضطهاد، ففيها مئات الآلاف من المصريين الذين صورهم النظام السابق باعتبارهم عملاء او خونة ولم يعطهم حقوق المواطنة، بل وتم اعتقال وتعذيب عدد كبير منهم بلا ذنب بتهم عشوائية كالضلوع في تفجيرات طابا ودهب بشرم الشيخ. ..في خاتمة كتابه، يرى برادلي أن المؤسسة العسكرية كانت هي الحاكم الفعلي من وراء الستار، وهي مؤسسة تمتلك نشاطا اقتصاديا هائلا وحظرت خصخصته، وكانت المؤسسة ترفض توريث الحكم لجمال كلية، وتهدد سرا باحتمال انقلاب عسكري عليه في هذه الحالة، كما رجح البعض.
لكن حدث سيناريو مختلف .. فبينما كان كتاب برادلي على وشك الدخول للمطبعة، كان عمال مصر قد نفد صبرهم وانتشرت الإضرابات في كل محافظات مصر..