رحل الرئيس جمال عبد الناصر عن دُنيانا في 28 سبتمبر 1970 والبلاد دون دستور متكامل يحكمها، وإنما كانت الدولة المصرية تعمل في ظل الدستور المؤقت لعام 1964 والذي نصت ديباجته على أنه يعتبر وثيقة مؤقتة إلى حين انتهاء مجلس الأمة من وضع دستور دائم لمصر. وقد حالت ظروف العدوان الإسرائيلي على مصر وعلى الدول العربية المجاورة لها في يونيو 1967 دون قيام مجلس الأمة بإعداد دستور جديد للبلاد، الأمر الذي دفع الرئيس الراحل عبد الناصر إلى إصدار بيان 30 مارس 1968 والقاضي بتأجيل وضع دستور جديد للبلاد على حين إزالة آثار العدوان.
ومع وصول الرئيس الراحل أنور السادات إلى سدة الحكم تغيرت المعادلة السياسية وتبدلت موازين القوى على المسرح السياسي بشكل جعل إصدار دستور جديد لمصر من أولويات النظام الحاكم.
وتتلخص أهم هذه العوامل في ظروف وملابسات ما عرف بأزمة "مراكز القوى"، والتي كان أطرافها الرئيس السادات من ناحية ومجموعة من قيادات المؤسسات الحكومية والسياسية النافدة آنذاك من ناحية أخرى، وبالتحديد سعت مجموعة من الشخصيات التي كانت مقربة من الرئيس الراحل عبد الناصر إلى تقليص صلاحيات الرئيس السادات وتحويله إلى رئيس شرفي ورمزي في حين يتحكمون هم فعلياً في القرار السياسي ويسيطرون على مقاليد الحكم في البلاد.
وكان من أبرز الشخصيات التي تآمرت على الرئيس الراحل أنور السادات نائب رئيس الجمهورية الأسبق وعضو اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي السيد / علي صبري، والسيد / سامي شرف والذي شغل لفترات طويلة منصب وزير شئون رئاسة الجمهورية، ووزير الحربية الفريق / محمد فوزي، ووزير الداخلية / شعراوي جمعة.
ويتضح من تلك المناصب أن هذه الشخصيات كانت تتحكم في المؤسسات الأقوى والأهم في الدولة المصرية وأنها كانت تتمتع بنفوذ هائل في جميع أركان النظام. لذا، قام الرئيس السادات بإزاحتهم جميعاً عن الحكم في مايو 1971 وقدمهم للمحاكمة فيما عرف آنذاك بثورة التصحيح، وذلك كإشارة إلى تصحيح مسار ثورة 1952.
ولم تقتصر "ثورة التصحيح" على إبعاد رموز الحقبة الناصرية عن الحكم، وإنما اقترنت بمجموعة من الإجراءات والتحركات السياسية الأخرى، كرفع شعار دولة المؤسسات وسيادة القانون، والابتعاد عن حكم الفرد وال "شللية"، وترسيخ حكم المؤسسات، فضلاً عن إطلاق الحريات العامة ومنع وضع أشخاص تحت المراقبة والتصنت على مراسلاتهم واتصالاتهم الشخصية دون إذن قضائي، وبطبيعة الحال، كان من المنطقي أن تشتمل هذه الخطوات الإصلاحية على الدعوة لإعداد دستور جديد ليحل محل الوثائق المؤقتة التي كانت قائمة آنذاك.
كان الإعلان عن إعداد دستور جديد لمصر وغيرها من الإجراءات السياسية التي اتخذت في مطلع السبعينيات جزءاً من خطة شاملة للرئيس السادات تهدف لإعادة إنتاج النظام الحاكم في مصر منذ ثورة 23 يوليو 1952 وترميم شرعيته التي اهتزت في السنوات الأخيرة لحكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. فقد تعرضت مصر خلال تلك الفترة لعدة أزمات وانتكاسات أصابت شرعية النظام الحاكم بشرخ جائر وألقت بظلال من الشك على كفاءته.
وكانت أولى هذه الأزمات انهيار الجمهورية العربية المتحدة وما أحدثه ذلك من صدمة قوية للمشروع القومي العربي الذي قادته مصر وتبناه ورعاه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ولم تقتصر آثار انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة على الانتكاسة التي تعرض لها المشروع الوحدوي العربي، وإنما كشف الانفصال والطريقة التي تم بها والمظالم التي عبر عنها السوريون والتي أدت إلى انقلاب جيشهم على دولة الوحدة عن مدى الفساد الذي تغلغل في بنيان الدولة، وقدر الاعوجاج الذي اتسمت به طريقة إدارة شئون الحكم الذي اعتمد بالأساس على أهل الثقة ممن يدينون بالولاء المطلق لمن هم في السلطة بدلاً من اللجوء لأهل الخبرة القادرين على إدارة شئون المجتمع بكفاءة واقتدار.
وإذا كان انهيار الجهورية العربية المتحدة قد أحدث صدعاً في المشروع الإقليمي العربي لنظام 23 يوليو 1952، فإن حرب يونيو 1967 والهزيمة القاسية التي تلقتها مصر خلالها كانت بمثابة ضربة قاسمة للنظام الحاكم ومشروعه الوطني. فقد أظهرت الحرب فشل القيادة السياسية المصرية في الذود عن الوطن وكرامته، وإخفاقها في إدارة المجتمع، وذلك لأن الحروب ليست مجرد مواجهة بين جيشين تحسمها موازين العدد والعتاد، وإنما هي صدام شامل بين شعبين وأمتين بكل ما يتوافر لديهما من قدرات وإمكانيات وعناصر القوة بما فيها العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وبالتالي، فقد جسدت نتائج حرب 1967 إخفاق النظام الحاكم في تأسيس دولة مصرية عصرية وحديثة تتوافر لديها مكونات ودعائم القوة بمفهومها الشامل والواسع التي تمكنها من الدفاع عن أرض الوطن وصد أعدائه المتربصين به وتحقيق آمال الشعب المصري وطموحاته.
وقد عبر المصريون عن غضبهم الشديد إزاء ما آلت إليه أوضاع بلدهم في السنوات التالية لنكسة 1967، وخاصة في المظاهرات الضخمة التي خرجت في فبراير وأكتوبر 1968، وهو الغضب الذي تفاعل معه النظام وسعى للتجاوب له من خلال بيان 30 مارس 1968 الذي صدر كمحاولة لمراجعة أسس الحكم وشكله ولمنح هامش أكبر من حرية التعبير والنقد للأوضاع القائمة آنذاك.
ولكن يظل أن ما حافظ على نظام يوليو 1952 وحماه من قيام ثورة شعبية عارمة هي الشخصية الكاريزمية والزعامة الطاغية والعشبية الجارفة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والتي وفرت قدراً من الطمأنينة للمصريين وحافظت على قدر من الأمل في إمكانية أن تنهض الأمة وتتجاوز ما تعرضت له من انتكاسات.
وبالتالي، لم يكن أمام الرئيس السادات ونظامه بعدما غيّب الموت الزعامة الكاريزمية للرئيس جمال عبد الناصر مفراً من إعادة إنتاج نفسه والبحث عن وسائل جديدة لترميم شرعيته التي شرخت واهتزت في السنوات الأخيرة من ستينيات القرن العشرين.
ومن هنا كان القيام بمجوعة من الإجراءات كرفع شعر دولة المؤسسات، والسعي لإصدار دستور جديد ينظم عمل هذه المؤسسات، وإعلاء مبدأ سيادة القانون، والإعلان عن وقف الممارسات القمعية لبعض الأجهزة الأمنية، والتوجه تدريجياً – خاصة في السنوات التي تلت حرب أكتوبر 1973 المجيدة – نحو إبراز دور الدين كأحد أسس شرعية النظام، فضلاً عن فتح الباب في منتصف وأواخر السبعينيات للعمل الحزبي والابتعاد عن منهج التنظيم السياسي الواحد الذي ساد خلال العهد الناصري.
ظروف سياسية لإصدار دستور 1971 طلب الرئيس الراحل أنور السادات في 20 مايو 1971 من مجلس الأمة أن يضع دستوراً جديداً للبلاد، وهو ما استجاب له المجلس وكوّن لجنة من 80 عضواً من أعضائه لوضع الدستور، على أن يُسمح للجنة بأن تستعين بمن تراهم من أهل الخبرة والشخصيات العامة.
وانقسمت هذه اللجنة العامة إلى أربعة لجان، هي: لجنة المقومات الأساسية للمجتمع والحريات والأخلاق، ولجنة نظام الحكم، ولجنة نظام الإدارة المحلية، ولجنة لتلقي مقترحات الجماهير. وبعد بدء عمل هذه اللجان الأربعة تم تكوين مجموعة كبيرة من اللجان الفرعية لمناقشة تفاصيل نصوص الدستور والمبادئ التي ستتضمنها، وشارك في هذه اللجان الفرعية العديد من أساتذة الجامعات والمفكرين ورجال الدين والمسيحي والإسلامي وسياسيين من مختلف التوجهات.
وانتهت هذه اللجان الفرعية من عملها ورفعت نتائج مشاوراتها للجنة العامة التي عكفت على ترجمة ما خلصت إليه اللجان الفرعية إلى مجموعة من المبادئ الدستورية العامة بلغ عددها 80 مبدءاً والتي تمثل العمود الفقري للدستور المصري الجديد.
وقد أحيلت هذه الوثيقة إلى مجلس الأمة الذي اطلع عليها وأقرها يوم 22 يوليو 1971 ورفعها إلى المؤتمر العام للاتحاد الاشتراكي الذي قام بدوره بتفويض لجنته المركزية بدراسة تلك المبادئ الدستورية وتحويلها إلى نصوص دستورية مفصلة. وبالفعل قامت اللجنة المركزية بإعداد مشروع للدستور بمساعدة مجموعة من الفقهاء الدستوريين وتم عرضه على المؤتمر العام للاتحاد الاشتراكي الذي وافق على المشروع يوم 8 سبتمبر 1971، ومن ثم عُرض مشروع دستور 1971 على الشعب المصري يوم 11 سبتمبر 1971، وجاءت نتيجة الاستفتاء بالموافقة على الدستور بنسبة 99,982%.
ويلاحظ هنا أن الفترة التي قضيت في دراسة دستور 1971 والتباحث حول مواده وشكل نظام الحكم الذي سيقيمه كانت محدودة. فمجمل الوقت الذي مضى منذ طلب الرئيس السادات من مجلس الأمة إعداد دستور جديد إلى أن عُرض هذا الدستور على الشعب لاستفتائه بشأنه وهي الفترة التي شملت بحث القواعد العامة للدستور في مجلس الأمة، وثم عرضها على الاتحاد الاشتراكي وبحثها في هيئاته المختلفة، وثم إحالته للجان فنية لصياغة أحاكمه، لم يتعد 114 يوماً، وهي مدة نعتبرها محدودة للغاية، ولا تتح إجراء حوار مجتمعي معمق وشامل حول الدستور، وشكل الحكم الذي ينبغي أن يقيمه. فكان من المفترض أن يأتي هذا الدستور معبراً عن تطلعات الشعب المصري وأولوياته في تلك الحقبة. وبالمقارنة، دعونا نستذكر أننا أشرنا في الفصل الثالث من هاذ الكتاب، والذي عرضنا فيه مسيرة التطور السياسي والدستوري في مصر، أن الفترة التي أمضتها لجنة الخمسين التي أعدت مشروع دستور 1954 امتدت من 13 يناير 1953 إلى 15 أغسطس 1954، أي لعام وسبعة أشهر، وهو ما ساهم في أن تخرج اللجنة بمشروع دستور منضبط الصياغة والبنيان.
تشكيل لجنة الصياغة بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970، تولى السلطة مؤقتا نائبه الرئيس محمد أنور السادات إلى أن تم ترشيحه بواسطة مجلس الأمة لرئاسة الجمهورية، وقد تمت الموافقة على رئاسته للجمهورية في الاستفتاء الشعبي الذي أجرى في منتصف أكتوبر 1970، وفى 20 مايو 1971 طلب الرئيس السادات من مجلس الشعب وضع مشروع دستور جديد، فقرر المجلس بجلسته المنعقدة في اليوم نفسه تشكيل لجنة تحضيرية من خمسين عضوا من أعضائه ومن أهل الرأي والخبرة ورجال الدين.
وفى جلسته المنعقدة في 25 مايو 1971، تقدم لعضوية اللجنة التحضيرية ثمانون من أعضاء المجلس، فقرر المجلس أن يرفع عدد الأعضاء من 50 إلى 80 عضوا واعتبر جميع المتقدمين أعضاء في اللجنة.
وقسمت اللجنة التحضيرية إلى لجان أربع: الأولى اختصت بدراسة المقومات الأساسية للمجتمع والحريات والأخلاق، والثانية اختصت بدراسة نظام الإدارة والحكم، والثالثة اختصت بدراسة نظام الإدارة المحلية والقوانين الأساسية، والرابعة اختصت بتلقي مقترحات الجماهير وتلخيصها وتوزيعها في اللجان السابقة تبعا لاختصاصها.
وباشرت هذه اللجان عملها، حتى انتهت اللجنة التحضيرية إلى تقديم تقريرها عن المبادئ الأساسية لمشروع الدستور إلى مجلس الشعب، ووافق المجلس على المشروع، والذي عرض مع وثيقة إعلانه على الشعب للاستفتاء عليه في 11 سبتمبر 1971؛ عملا بأحكام المادة 193 من الدستور