أصدرت دار الشروق مؤخرا طبعة ثانية من كتاب الناقد الراحل رجاء النقاش "بين المعداوى وفدوى طوقان: صفحات مجهولة فى الأدب العربى". يسرد الناقد رجاء النقاش مسيرة تأليفه لهذا الكتاب فى طبعته الأولى عام 1989، إنه تلقى فى أوائل عام 1974 رسالة من الشاعرة الفلسطينية الكبيرة فدوى طوقان، وكان قد طلب منها أن يحصل على رسائل الناقد أنور المعداوى التى كتبها إليها حيث كان يزمع كتابة مؤلف عن أدب المعداوى ومأساة حياته. ولقد كتبت فدوى طوقان فى رسالتها لرجاء النقاش عام 1974 إن الحزن أصابها عندما علمت من مقال للدكتور لويس عوض أن أنور المعداوى كان مريضا ثم توفى فالتحم حزنها عليه بحزنها على شقيقها عز الذى توفى فى حادث طائرة. ووصفت كيف أن رسائل أنور المعداوى إليها كانت مبعثرة على المقاعد وكتبت هى قصيدة قالت فيها: أحبائى تحت الرياح وتحت المطر وأصغى إلى وقع أقدامهم فى الممر أقبل هذا الجبين وأمسح هذا الشعر يضم الكتاب سبع عشرة رسالة كتبها الناقد أنور المعداوى إلى الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، رسائل مهمة؛ تكشف جانبًا من الحياة الشخصية السرية لواحدة من أهم شاعرات العرب وأهم ناقد مصرى فى نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، وأنه قد قامت بينهما علاقة أفلاطونية أضافت للأدب العربى هذا النص الجميل والممتع والنادر من نوعه. كما تلقى هذه الرسائل الضوء على جوانب عديدة من حياة المثقفين فى ذلك العصر؛ أفكارهم، وعلاقاتهم، ومعاركهم. وهو الأمر الذى زاد متعة وثراء بفضل التحليل الشيق والبحث الدءوب الذى أجراه رجاء النقاش؛ ليقدم لنا شخصية المعداوى فى مقدمة ضافية، ثم بأسلوبه الفريد، ولغته السلسة يتناول نصوص الرسائل بالتحليل مفصلا الكلام حول هذه السنوات الثرية فى تاريخ الأدب والثقافة العربية. نقرأ من روائعها قصيدة " أوهام في الزيتون" في السفح الغربي من جبل (جرزيم) حيث تملأ مغارس الزيتون القلوب و العيون، هناك، ألفت القعود في أصل كل يوم عند زيتونة مباركة تحنو على نفسي ظلالها، وتمسح على رأسي غذ بات أغصانها: وطالما خيل الي أنها تبادلني الألفة و المحبة، فتحس أحساسي و تشعر بشعوري. و في ظلال هذه الزيتونة الشاعرة، كم حلمت أحلاماً ، و وهمت أوهاماً !. هنا،هنا، في ظل زيتونتي تحطّم الروح قيود الثرى وتخلد النفس إلى عزلة يخنق فيها الصمت لَغوَ الورى هنا، هنا، في ظل زيتونتي في ضفة الوادي . يسفح الجبل أصغي ‘لى الكون و لمّا تزل آياته تروي حديث الأزل هنا يهتم القلب في عالم تخلقه أحلامي المبهمه لأفقه في ناظري روعة وللرؤى في مسمعي هيمنه عالم أشواق سماويةٍ تطلق روحي في الرحاب الفساح خفيفةً لا الأرض تثنى لها خطوا ولا الجسم يهيض الجناح واهاً: هنا يهفو على مجلسي في عالم الأشواق روحٌ حبيب لم تره عيناي لكنني أحسه مني قريباً قريب ! أكاد بالوهم أراه معي يغمر قلبي بالحنان الدّ فيق يمضي به نحو سماء الهوى على جناح من شعاع طليق زيتونتي، الله كم هاجسٍ أوحت به أشواقي الحائره. وكم خيالات وعى خاطري تدري بها أغصانك الشاعرة نجيّتي أنت و قد عزّني نجيُ روحي يا عروس الجبل دعي فؤادي يشتكي بثّه لعل في النجوى شفاءً ، لعلّ ! يا ليت شعري أن مضت بي غداً عنك يد الموت إلى حفرتي تراك تنسين مقامي هنا وأنت تحنين على مهجتي ؟! تراك تنسين فؤداً وعت اسراره أغصانك الراحمات باركها الله ! فكم ناغمت وهدهدت أشواقه الصارخات زيتونتي ، بالله إما هفت نحوك بعدي النسمة الهائمة فاذ ّكري كم نفحتنا معاً عطورها الغامرة الفاغمة و حين يستهويك طير الربى بنغمةٍ ترعش منك الغصون فاذّ كري كم طائرٍ شاعرٍ ألهمه شدودي شجّي اللحون! تذكّرني كلما شعشعت أوراقك الخضراء شمس الأصيل فكم أصيل فيه شيعتها بمهجة حرّى و طرف كليل إن يزوها المغرب عن عرشها فالمشرق الزاهي بها يرجعُ لكنني ،آها !غداً تنزوي شمس حياتي ثم لا تطلع ! ويحي؟ أتطويني الليالي غداً وتحتويني داجيات القبور فأين تمضي خفقات الهوى وأين تمضي خلجات الشعور ونور قلبي ،والرؤى والمنى وهذه النار بأعماقيه هل تتلاشى بدداً كلها كأنها ما ألهبت ذاتيه؟! أما لهذا القلب من رجعة للوجد ،للشعر ، لوحي الخيال؟ ايخمد المشبوب من ناره؟ واشقوة القلب بهذا المآل ! يا ربّ ، إما حان حين الردى و انعتقت روحي من هيكلي و أعنقت نحوك مشتاقةً تهفو الى ينبوعها الأول و بات هذا الجسم رهن الثرى لقىً على أيدي البلى الجائرة فلتبعث القدرة من تربتي زيتونة ملهمةً... شاعره !. جذورها تمتصّ من هيكلي ولم يزل بعدُ طرياً رطيب تعبّ من قلبي أنواره ومنه تستلهم سرّ اللهيب !. حتى إذا يا خالقي أفعمت عناصري أعصابها و الجذور انتفضت تهتز أوراقها من وقدة الحسّ و وهج الشعور و أفرعت غيناء فينانة مما تروّت من رحيق الحياة نشوى بهذا البعث ما تأتلي تذكر حلماً قد تلاشت روءاه حلم حياة سربت و انطوت طفّاحة بالوهم .. بالنشوة لم تك إلاّ نغماً شاجياً على رباب الشوق و الصبوة!