البون شاسعٌ بين من ذهبَ إلى صندوق الانتخاب بقناعة وعقيدة كي يُدلي بشهادته أمام الله والضمير، قاصداً بقراره وضع نقطة مضيئة في طريق الوطن، وبين من ذهبَ إليه مَسلوبَ العقل أو مقتول الضمير ليُرضي شهوة أو نزوة، أو يُرضي فرداً أو أفراداً.. فالأول قد آمن بنفسه ووثق في عقله وراعى ربه، فنظر إلى مستقبله ومستقبل أولاده ووطنه، والثاني نظر تحت نعله فرضي بالفتات كما ترضى الهوام، فحريٌ بالأول أن يجد مُتَّسعاً في حضن مصر يَمْرحُ فيه، وحريٌ بالثاني أن يبحث لنفسه عن قبر ليسكنه، وأني للقبور أن تقبله ساكناً؟!. لا عُذر لمن أخطأ في حق مصر، فأساء الاختيار لقاء مال أو وَعْدٍ بمنصب.. لا عذر لمن تاجر بمصير مصر وقبض الثمن العاجل والخُسران الآجل.. لا عذر لمن خلع عقله من رأسه وتركها فراغاً تعربد فيه ريح الأهواء والأغراض الدنيئة.. لا عذر لمن لم يقرأ جيداً ومن لم يفهم جيداً، باذلاً العناية للوصول إلى الحق في هذا الظرف الدقيق الذي يمر به الوطن، خاصة وقد وصلت المعلومات إلى كل بيت وإلى كل أذن، وأظننا شعبٌ ينقل المعلومة بسرعة الضوء في ظل تعدد وتنوع وسائل التواصل والاتصال.
ولا عُذر لمن تكاسل عن الإدلاء بشهادته، خشية الحرِّ، أو الزحام، أو البطش.. فمصر لا يمنع المُخلصين عنها إلا الموت، ورُبَّ شهادة واحدة - لا يُلقى لها بالاً - تحددُ مصيراً وترسم طريقاً ليمضي عليه جيل بكامل هيئته، دون مُنغصات ولا مُكدرات.. فمن بخل بالشهادة فقد بخل على نفسه وأهله ومجتمعه ووطنه، وعليه أن يتحمل الوزر وحده.
كنا نُمَني النفس طوال عقود مضت بامتحان حقيقي، يَنفخُ الروح في رُفاتِ إرادتنا فيبعثها من قبور الخوف والضعف، لتصطف في صعيدِ الخلود بقولها الحق دون تعثر ولا لجلجة، حتى جاء - بفضل الله - من نفخ في البوق، فأيقظ الكرامة من نومها، بل من موتها، ثم مات لنحيا، ورحل لنبقي.. فلا أقل من أن ننصف الدماء التي سالت والدموع التي انثالت، بقول الحق الذي بان أمام العيون كالشمس في رابعة النهار.
أما وأن نفوساً قد ألفت الفساد، واستمرأت البقاء في أعشاش الجراثيم، فلن ينالهم - والله - إلا غُصَّة في الحلوق وضيقاً في الصدور ونكداً في العيش، فذا قدر الله مع من لم يحترم هديته التي منحها لشعب مصر يوم 25 يناير، ليغتسل بها من أدران الجبن، وليتطهر بها من رجس الخوف، وليتسامى بها فوق الدنايا وشهوات النفس، بطلب العزة لوطن كَسَرَ هيبته في أهله وناسه طغاة جبارين على مدار عقود.
هنيئاً لمن نجح في الامتحان التاريخي الذي ألمَّ بالوطن في لحظة مفصلية فارقة فأشر بنعم نحو مصر الجديدة في حُلَّتها الثورية المُطرَّزة والمُجمَّلة بدماء شهدائها الأبرار الأحرار، ولا سامح الله من رأي الحق واتَّبع الهوى، محاولاً إدارة وجه الوطن إلى الوراء.
انحناءة احترام وإجلال لكل قطرة دم سالت، لتبتسم مصر هذه الابتسامة، التي رأيتها أمام صناديق الانتخابات.