أعادت قصور الثقافة طباعة كتاب قيم أعده الباحث الدكتور حسين نصار حول "الثورات الشعبية في مصر الإسلامية" ويعني بها تلك الثورات التي ظهرت في القرون الثلاثة الأولى التي تلت الفتح العربي لمصر، والتي اختتمت بدخول الفاطميين وإقامة الخلافة الشيعية . وينقسم الكتاب إلى بابين، يشمل الباب الأول التعريف بالثورات الحمراء التى ضحى فيها المصريون بدمائهم وهى ثورات "العلويين، الأمويين، الخوارج"، إضافة إلى الثورات الاقتصادية والقبطية والثورات المجهولة الأسباب، والباب الثاني يشمل ما يخص المقاومة البيضاء التي تتضمن مرحلة الامتناع عن التعاون مع الأمراء الذين تولوا الخلافة على مصر، ثم مرحلة المقاومة القولية التى لجأ إليها المصريون فى مقاومتهم للخلفاء وانقسمت إلى نوعين "شعرى ونثرى". الثورات الحمراء
أول فتنة قامت في الخلافة الإسلامية كما يشير الكتاب هي ما تسمى بالفتنة الكبرى أيام عثمان وهي فتنة كان للمصريين فيها نصيب كبير . ويروي الكتاب صراع العلويين من أجل السيطرة على مصر حتى توجت جهودهم باستيلاء الفاطميين على مصر، وانتزاعها من الخلافة العباسية، وإقامة خلافة شيعية بها. وكان لعلويي مصر فضل كبير في تمهيد الطريق كي يستطيع الفاطميون اقتطاف الثمرة الناضجة.
يواصل الكاتب: الثورات المصرية الإسلامية بدأت بابتداء الفتن في العالم الإسلامي، وكانت بداية عنيفة عارمة شأنها في غير مصر من أقطار الخلافة واصطبغت ثورة مصر خاصة بصبغة علوية، بينما كان هوى غير المصريين من الثائرين في الزبير بن العوام أو طلحة بن عبيد الله.
ويتضح لنا من الأخبار التي وصلت إلينا عن الأمويين أنهم كانوا أقوياء كثيري العدد، وأنهم اشتركوا في ثورات دموية عنيفة في مطلع الدولتين الأموية والعباسية، وكانوا في المعارك الأولى يثأرون لدعم عثمان ويمهدون لإقامة خلافة أموية، وفي الثورات الأخيرة يثأرون لخلافتهم المنهارة ويحاولون تقويض دعائم الخلافة العباسية القادمة، وإقامة خلافة أموية مصرية.
ويوضح الكتاب أن الفتنة الكبرى التي عاصرت مقتل عثمان ابن عفان كانت سبباً في ظهور حزب ثالث في المشرق هو أعنف حزب إسلامي ونقصد به حزب الخوارج، فقد دأب الخوارج طوال العهد الأموي وشطراً من العباسي على القيام بالثورات الجامحة المدمرة التي استماتوا في القتال فيها، وكادوا في بعض الأحيان يذهبون بالدولة الأموية.
ولم تكن مصر بمعزل عن هذا الحزب العنيف، بل ظهر فيها جماعات تدين بآرائه وتعتنق تعاليمه، وأول ما نسمع بهم في مصر في فتنة عبدالله بن الزبير، فالكندي يقول "توفى يزيد بن معاوية سنة أربع وستين، ودعا ابن الزبير إلى نفسه. فقامت الخوارج الذين بمصر في مصر وأظهروا دعوته، وكانوا يحسبونه على مذهبهم. ووفدوا منهم وفداً إليه، وسألوه أن يبعث إليهم بأمير يقومون معه ويؤازرونه، وبعث ابن الزبير إليها بعبد الرحمن بن جحدم الفهوي، فقدمها في طائفة من الخوارج"، وبايعه المصريون ودخل معه مصر جماعة كثيرة من الخوارج وأظهروا دعوة عبدالله بن الزبير بمصر، ودعوا الناس، وبويع مروان بن الحكم خليفة في دمشق، فدعاه الأمويون إلى المسير إلى مصر لانتزاعها من ابن الزبير. فسار على رأس جيش وأرسل ابنه عبدالعزيز على رأس جيش آخرخ لغزوها. أشار أنصار ابن جحدم عليه أن يحفر خندقاً حول الفسطاط لحمايتها، فحفره في شهر.
وحدث قتال بين الجيشين وظل سجالاً بينهما مدة، وقتل كثير من أهل القبائل من أهل مصر ومن أهل الشام أيضاً، ولما ملوا القتال تفاوضوا في الصلح، على أن يأخذ مروان مصر، ولا يتعرض لابن جحدم. وتم الصلح، فدخل مروان مصر في غرة جمادى الأولى عام 65ه ولما استقر مروان بمصر قتل جماعة من أنصار ابن جحدم، منهم ثمانون رجلاً دعاهم إلى أن يبايعوا له فأبوا وقالوا: "إنا قد بايعنا ابن الزبير طائعين فلمنكن لننكث بيعته" فقدمهم رجلاً رجلاً فضرب أعناقهم.
وتبين لنا الأخبار – يواصل الكتاب - أن العلويين المصريين لم ينشقوا إلى شيعة وخوارج كما حدث في العراق، وإنما استمروا على هواهم العلوي. ولم يظهر بين المصريين كثيرون ممن يرون رأي الخوارج ولكن ما أن قام عبدالله بن الزبير بثورته، التي اعتمد فيها بعض الوقت على تأييد الخوارج، حتى دخلت جماعة كبيرة منهم مصر لضمها إلى سيطرة ابن الزبير. وكان ذلك أول عهد المصريين بنفوذ الخوارج. فلما قضي الأمويون على ثورة الزبيريين والخوارج بمصر، ووليها عبد العزيز بن مروان مدة طويلة، وأطلقت يده في تصريف شئونها، استطاع أن يوطد دعائم الحزب الأموي، وأن يجتث بذور الخوارج فاضطروا إلى الانزواء في البقاع المصرية النائية كالواحات حيث يبدو أنهم عاشوا حياة مستقلة عن الحكم الأموي، ودون أن يسمع أحد لهم أخباراً. أما من بقي منهم في المدن المصرية فقلة ضئيلة.
ويخلص المؤلف إلى أن مصر لم تنعزل عن النشاط السياسي في غيرها من بلاد المشرق وأن الأحداث الكبرى التي كانت تقع بهذه الأقطار كانت تجد صداها سريعاً في مصر.
الثورات الاقتصادية حافظ المصريون على اتصالهم بالمشارقة واستجابوا لما قاموا به من أحداث، وكان لكل ما يقع بالمشرق صداه في مصر، فما أن يظهر حزب في خارج مصر حتى يظهر مثيل له في داخلها، وما أن تهب ثورة كبيرة في العراق أو الحجاز أو الشام حتى يكون لها وقعها وآثارها في حياة المصريين.
لكن كانت هناك أيضا ثورات محلية مصرية ليست صدى لثورات أخرى إسلامية مجاورة، وغالبا ما كان سببها تردي أحوال المعيشة . ويرى المؤلف أن هذا النوع من الثورات تحديدا بدأ يظهر في المائة الثانية بعد الهجرة، فنجد أولى الثورات في عام 107 ه حين زاد الخراج في أرض مصر فقامت الفتن والثورات حول الفسطاط وكان أكثر القائمين بها من القبط، لأنهم أصحاب الأراضي الخراجية، ولم يستطع الوالي إخماد هذه الثورات إلا بعد سفك كثير من الدماء.
مصر كما يشير الكتاب بقيت هادئة طوال العصر الأموي، فلم تعرف الاضطرابات ولا الثورات الاقتصادية، ولكن ما أن أظلها العهد العباسي حتى كثرت الثورات وتعددت وخطر أثرها، فلم يكن يمر عام أو عامان حتى تقوم ثورة سببها زيادة الخراج أو منع العطاء أو التحايل في استخراج أموال الأهالي، أو فرض ضرائب جديدة، وتلاحقت الثورات الاقتصادية الكبيرة. ولم تسترح مصر من هذا اللون من الثورات إلا في عهود الاستقلال تحت ظل الطولونيين ثم الإخشيديين، قام ببعض هذه الثورات الجند دون أن يتدخل المدنيون، وتدخلوا في بعضها بعد أن بدأها الجند. واشترك في بعضها الآخر المسلمون والأقباط، وخاصة الثورات التي قامت بسبب فرض ضرائب جديدة أو بسبب زيادة الخراج.
وعن ثورات القبط يشير الكتاب أن القبط حافظوا على هدوئهم طيلة القرن الهجري الأول، ولكن تلاحقت ثوراتهم في القرن الثاني، ثم اندلعت ثورتهم الكبرى في القرن الثالث، وأن معظم الثورات التي وصلتنا أخبارها كانت في الوجه البحري، وأنها قامت لأسباب مالية لا دينية، حتى أن المسلمين شاركوهم في بعضها، وفي ثورتهم الكبرى خاصة، وأنها شاركت الثورات الاقتصادية فترات نشاطها وهدوئها.
يؤكد الكتاب أن المصريين قاوموا ما كرهوه ولم يرضوا عنه مقاومة إيجابية بالقوة، ومقاومة سلبية بالامتناع عن التعاون وكما كثرت ثوراتهم الحمراء تنوعت صور مقاومتهم البيضاء، وبلغوا في كثير منها أمانيهم التي كانوا يسعون إليها، فالمقاومة البيضاء لم تكن عندهم أقل شأناً من زميلتها الحمراء، ولم تتأخر عنها بل ظهر الاثنان في وقت واحد، هو وقت ظهور الثورات الإسلامية عامة ويعني المؤلف فتنة عثمان.
فقد امتنع أهل القرى والمدن عن أداء الخراج، وامتناع الجند عن إجابة طلب الوالي وقت الشدة، وكثيراً ما أدى هذان اللونان إلى الثورة العارمة أو انهزام الوالي.
لجأ المصريون فيما لجئوا إليه من مقاومة بيضاء، إلى ما قد نسميه المقاومة اللسانية أو المقاومة القولية وأعني به المقاومة باللسان أو القول، وطبيعي أن تنقسم المقاومة إلى نوعين شعري ونثري.
استخدم المصريون أسلحة قولية مختلفة لمعارضة النظام، وبينها الشعر، والفكاهة والسخرية .