تخمد النيران ويفنى وقودها، ويظهر بعد لهيبها رماد يخيل إلينا به أن أمرها قد انتهى، ولكن سرعان ما يتكشف لنا عكس ذلك مع أول دفقة من الرياح التي تذهب بهذا الرماد لنرى تحته جمرا لايزال متقدا يتضح معه بجلاء لا ريب فيه أن القلوب ممتلئة حقدا وحسدا، وأن النيران لاتحتاج لأكثر من حزمة من الحطب حتى تشتعل من جديد. ولو أن هذه القلوب ممتلئة بالصدق والنزاهة، لو أن هذه النفوس مصانة بقيم الموضوعية والحيادية والعدل التي كثيرا ما تتشدق أفواهها بها لكان الأمر يسيرا ولجرى حوار بناء وخلاق كان جديرا بالنشء المصري خلال المستقبل القريب ان يستفيد منه، ولكن للأسف الشديد يقف بريق المال حاجزا أمام رؤية ثلة من أبواق ما يسمى بالتنوير والحداثة -الفارغة عقولهم من أي إبداع حقيقي- عن قبول الآخر الذي يسعى لقبولهم رغم جهلهم الشديد. ورغم كل المؤشرات التي تؤكد أن العصر المقبل هو عصرالإسلام مازال الإسلام يقف ودعاته في خندق الاتهام وتكال له الأكاذيب، ويسخر الجهلاء من من تعاليم يلهج الاسلاميون بترديدها والسلفيون منهم تحديدا وكأنهم لا يعلمون أن السلفيين لم يقوموا بتأليف هذه التعاليم وإنما أتت هذه التعاليم من الله ورسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم. إن هذه الردة الفكرية والإيمانية التي تمارس من قبل من ينسبون أنفسهم إلى الإسلام قولا ويتنكرون له ولتعاليمه حقيقة شيء مثير للخزي والانحطاط في أبشع صورهما، والغريب أنهم يسخِّرون وتسخَّر لهم آلة إعلامية جبارة، ينفخون من خلالها سمومهم الخبيثة دون مراعاة لأية قيم أو آداب إنسانية، فلطالما امتلأت جيوبهم بالنقود وإن تعرت انفسهم من أدنى مستوى من الآدمية؛ ليمارسوا الإرهاب الفكري تجاه الإسلاميين على الطريقة الأمريكية. نعم، ما زال الإسلام غريبا في عقر داره، وما زال المتمسكون بهديه يرمون بالتطرف والجمود، دون مناقشة لما يستدلون به، وقطعا لا جدوى من نقاش الإسلاميين طالما كانت استدلالاتهم صحيحة وحججهم واضحة لا مجال إلى إنكارها، هروبا عن سبيل الحق وتنكبا لسبيل الباطل من قبل الليبراليين، والسوفسطائية التي تمارس ضد الإسلاميين خير دليل. ففي الوقت الذي يقول فيه أدعياء الليبرالية إن "الحرية الحقيقية تحتمل إبداء أي رأي ونشر أي فكر وترويج أي مذهب" نجدهم يصادرون هذه المقولة مصادرة ويحاصرون أي فكر معارض لهم ويشنون عليه الهجمات تلو الهجمات، ثم يتهمون دعاة الفكر المعارض لهم بممارسة الحصار الفكري عليهم في حين ترتع ألسنهم عبر كل الوسائل الإعلامية سبا وقذفا لغيرهم من أصحاب الفكر المناهض لفكرهم. ولو أنهم أصحاب فكر مستنير حقا لما رموا غيرهم بالباطل، ولو كانوا مستنيرين لناقشوا أقوال خصومهم بعد أن يعرضوا أدلتهم ومن ثم يقومون بدحض الدليل بدليل لا يقبل الرد، وخير لهم لو فعلوا لأنهم سيكونون وقتها قد أنصفوا أنفسهم قبل أن ينصفوا غيرهم، ولكنهم لم يفعلوا ذلك لأنهم لا يملكون الدليل والعلم والمنطق الذي يختلفون به، إضافة إلى أن حجج غيرهم ربما تكون غالبا دامغة لا تقبل الرد، ما يدفعهم به جهلهم إلى مما رسة السخرية والسباب لخصومهم المناهضين لهم. ولو عُرض على أحد هؤلاء المثقفين قول لأحد السلفيين تحديدا لسارع بوصف هذا القول بالتشدد والتطرف، فإذا سألته عن القول الوسط الذي يؤمن هو به فلن تجد عنده إجابة! عيب كبير على من لا يملك رؤية أصلا أن يسارع في الهجوم على أصحاب الرؤى والفكر وإن اختلف معهم، ولا غرابة في أن يحدث كل هذا فما الجالسون إلى الآن على كراسي مؤسسات الدولة الثقافية ومنابرها الإعلامية إلا مجموعة من الجهلاء المتترسين خلف مسميات الثقافة والفكر والإبداع وهم إلى الفوضى والتخلف أقرب من أي شيء آخر. تراهم عبر الفضائيات الماسونية والصحف الصفراء يكثرون من قول "في الحقيقة" و"في الواقع" وهم أجهل الناس بالحقيقة، وأبعدهم عن الواقع. نعم لقد صنعهتم الماسونية على أعينها، وأفسحت لهم عبر جهاز أمن الدولة المنحل الطريق أمام أعلى المناصب ليخدموا أغراضا خبيثة، في حين حُرم الاسلاميون من تلك المناصب، بل من أدنى منها بكثير، وإن كانوا أعلى منهم إبداعا وأثمن فكرا! فالنظام المخلوع وما قبله من الأنظمة لم يحتضن المبدعين يوما ولم يع حاجة مصر إليهم، وتركهم للدول المعادية تستفيد من إمانياتهم العلمية والفكرية، وسارع لات نجحوا وحازوا تقدير العالم في أن يقول هم أبناء مصر، في حين حرم مصر من خيرهم! ومن لم يهاجر منهم لم يجد له في هذا البد مكانا يليق به وطوي عن الأنظار وعاش كسائر العوام تقوده خطاه إلى حظوظ تعسة مؤلمة، ليس لأن إمكاناتهم ضعيفة ولكن لأنهم كانوا يحكمون بنظام جاهل وظالم، ولأن النظام جاهل وظالم استعان بمجموعة من الجهلة والظلمة، أساءوا إلى مصر وإلى المبدعين من أبنائها، وما زالوا موجودين بهذه المناصب وما زالوا يسيئون بجهلهم الشديد إلى مخالفيهم ممن هم أقوم منهم فكرا، رغم قيام الثورة وما يقتضيه من تطهير كل مؤسسات الدولة من هؤلاء المتطرفين الجهلة. إن المتابع لما يتعرض له الإسلاميون من تشويه إعلامي إبان الفترة المؤخرة يتأكد له أنهم يتعرضون لحصار فكري شديد، وتمارس ضدهم أبشع أنواع الاضطهاد سواء أخطئوا أو أصابوا، ويسارع ناقصو الوعي في إلصاق التهم بهم وإيقاع الأحكام عليهم، في حين لايقبلون من قبل الإسلامين أي نقد لهم أو حكم عليهم، وكأن الملحدين والفوضووين صاروا يملكون صكوكا للغفران أو امتيازات سماوية مقدسة لجلد غيرهم من المخالفين للباطل الذي هم عليه. إن هؤلاء المأجورين وأصحاب الزيغ والضلال يحسبون أن العلم والمنطق والفكر والشعب خولهم أن يتكلموا بلسانه، مع أن الوقع يثبت خلاف ذلك تماما، وتالله لو خولهم العلم لاحترموا انفسهم قبل أن يحترموا غيرهم، فهم يهذون بأيدلوجيات مستوردة يبعيونها في أول معركة لا تقام لهم حجة فيها، ويفضلون وقتها أن يسيروا بمنطق "أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون"! إن من حق الليبراليين والفوضويين أن يختلفوا مع غيرهم، ومن حق غيرهم أن يختلف معهم، ومن حقه أن يصادر أفكارهم كما يصادرون فكره ويحكمون عليه، ولكن شريطة أن يتمتعوا بآداب الاختلاف ويحفظوا حرمة المقدسات، فإن أرادوها حرية مطلقة فليقبلوا بالحرية المطلقة التي عند غيرهم، وإن أرادوها مقيدة ومنضبطة فعليهم ان يلتزموا قبل غيرهم بقواعد هذا الانضباط، أما أن يقولوا ولا يقول أحد قولا يخالف ما يقولونه فشيء غير معقول ولا مقبول، فإن أساغوا لأنفسهم الهجوم على غيرهم والتسفيه لهم فليتحملوا من غيرهم قدرا مماثلا من الهجوم والتسفيه. إن الحق أبلج كالشمس الساطعة في رابعة النهار، وليس أمامنا إلا أن نتبع الحق وننتصر له، وان مجته قلوب مريضة، وإن لفظته أنفس منغلقة على الهوى والجهل والعناد، وإن لم تستسغه حلوق الفوضووين ودعاة الحداثة، فليس غريبا هذا النهج ولا بعيدا عليهم ومن يكُ ذا فم مرٍّ مريضٍ يجد مرًّا به الماءَ الزُلالا