مسؤول أمريكي: الضربة الجوية على داعش أسفرت عن مقتل عدد من عناصر التنظيم    ترامب يعلن "ضربة قاتلة" لتنظيم "داعش" في نيجيريا    هشام يكن: مواجهة جنوب أفريقيا صعبة.. وصلاح قادر على صنع الفارق    حريق هائل في عزبة بخيت بمنشية ناصر بالقاهرة| صور    إصابة جندي إسرائيلي في إطلاق نار داخل قاعدة عسكرية    منة فضالي للإعلامية يارا أحمد: لو حجيت هتحجب وساعتها هسيب الشغلانة    الأب بطرس دانيال: اختلاف الأديان مصدر غنى إنساني وليس سببًا للصراع    كأس مصر - بتواجد تقنية الفيديو.. دسوقي حكم مباراة الجيش ضد كهرباء الإسماعيلية    زيلينسكي يبحث هاتفيًا مع مبعوثي ترامب محاولات التوصل لسلام مع روسيا    أردوغان للبرهان: تركيا ترغب في تحقيق الاستقرار والحفاظ على وحدة أراضي السودان    محمد فؤاد ومصطفى حجاج يتألقان في حفل جماهيري كبير لمجموعة طلعت مصطفى في «سيليا» بالعاصمة الإدارية    أمم إفريقيا - تعيين عاشور وعزب ضمن حكام الجولة الثانية من المجموعات    «اللي من القلب بيروح للقلب».. مريم الباجوري تكشف كواليس مسلسل «ميدتيرم»    الأقصر تستضيف مؤتمرًا علميًا يناقش أحدث علاجات السمنة وإرشادات علاج السكر والغدد الصماء    متابعة مشروع تطوير شارع الإخلاص بحي الطالبية    أسامة كمال عن قضية السباح يوسف محمد: كنت أتمنى حبس ال 18 متهما كلهم.. وصاحب شائعة المنشطات يجب محاسبته    كشف لغز جثة صحراوي الجيزة.. جرعة مخدرات زائدة وراء الوفاة ولا شبهة جنائية    رئيس كوريا الشمالية يؤكد أهمية قطاع إنتاج الصواريخ في تعزيز الردع العسكري    ناقد رياضي: تمرد بين لاعبي الزمالك ورفض خوض مباراة بلدية المحلة    نجم الأهلي السابق: تشكيل الفراعنة أمام جنوب إفريقيا لا يحتاج لتغييرات    محافظة الإسماعيلية تحتفل بالذكرى الخمسين لرحيل كوكب الشرق بحفل "كلثوميات".. صور    بروتوكولي تعاون لتطوير آليات العمل القضائي وتبادل الخبرات بين مصر وفلسطين    ساليبا: أرسنال قادر على حصد الرباعية هذا الموسم    مدرب مالي يكشف حقيقة تسرب الخوف في نفوس لاعبيه قبل مواجهة المغرب بأمم أفريقيا    جوتيريش يدعو لضمان انتخابات سلمية وشاملة في جمهورية أفريقيا الوسطى    جيش الاحتلال الإسرائيلي يصيب فلسطينيين ويعتقل أحدهما    ضياء رشوان: نتنياهو يحاول اختزال المرحلة الثانية من اتفاق غزة في نزع سلاح حماس وتغيير مهام قوة السلام    أخبار مصر اليوم: سحب منخفضة على السواحل الشمالية والوجه البحري.. وزير العمل يصدر قرارًا لتنظيم تشغيل ذوي الهمم بالمنشآت.. إغلاق موقع إلكتروني مزور لبيع تذاكر المتحف المصري الكبير    40 جنيهاً ثمن أكياس إخفاء جريمة طفل المنشار.. تفاصيل محاكمة والد المتهم    العريس المتهم بقتل الطفلة رقية خلال زفته يسلم نفسه لمركز شرطة أوسيم    جامعة الأقصر تناقش سبل تنفيذ ورش عمل متخصصة بمجال التعليم الإلكتروني.. صور    "التعليم المدمج" بجامعة الأقصر يعلن موعد امتحانات الماجستير والدكتوراه المهنية.. 24 يناير    واعظات الأوقاف يقدمن دعما نفسيا ودعويا ضمن فعاليات شهر التطوع    استمرار حملات إزالة التعديات على الأراضي الزراعية بكرداسة    فاروق جويدة: هناك عملية تشويه لكل رموز مصر وآخر ضحاياها أم كلثوم    عقب واقعة ريهام عبد الغفور.. أشرف زكي: هناك ضوابط يُجرى إعدادها خلال ال48 ساعة المقبلة    تطور جديد في قضية عمرو دياب وصفعه شاب    جلا هشام: شخصية ناعومي في مسلسل ميد تيرم من أقرب الأدوار إلى قلبي    الزمالك يستعد لمباراة غزل المحلة دون راحة    مستشار شيخ الأزهر للوافدين: نُخرّج أطباء يحملون ضمير الأزهر قبل شهادة الطب    إصابة 7 أشخاص في حادث انقلاب سيارة نصف نقل بالطريق الصحراوى في البحيرة    دهس طفل تحت عجلات ميكروباص فوق كوبري الفيوم.. والسائق في قبضة الأمن    مناسبة لأجواء الكريسماس، طريقة عمل كيك البرتقال بالخلاط بدون بيض    تراجع جماعي لمؤشرات البورصة بختام تعاملات اليوم الخميس    هي تلبس غوايش وأنا ألبس الكلبش| انفعال محامي بسبب كتابة الذهب في قائمة المنقولات    «مؤسسة محمد جلال الخيرية» تكرم أكثر من 200 حافظة وحافظ للقرآن الكريم    تعيين محمد حلمي البنا عضوًا بمجلس أمناء الشيخ زايد    أخبار كفر الشيخ اليوم.. إعلان نتائج انتخابات مجلس النواب رسميًا    جراحة دقيقة بمستشفى الفيوم العام تنقذ حياة رضيع عمره 9 أيام    أخصائي يُحذر: نمط الحياة الكارثي وراء إصابة الشباب بشيخوخة العظام المبكرة    خبير: صناعة التعهيد خلقت فرص عمل كبيرة للشباب وجذبت استثمارات أجنبية لمصر    كيف نُصلِح الخلافات الزوجية بين الصم والبكم؟.. أمين الفتوى يجيب    برلمانية: الاستحقاق البرلماني الأخير يعكس تطورًا في إدارة العملية الانتخابية    وزير الخارجية: التزام مصر الراسخ بحماية حقوقها والحفاظ على استقرار الدول المجاورة    هل للصيام في رجب فضل عن غيره؟.. الأزهر يُجيب    الوطنية للانتخابات: إبطال اللجنة 71 في بلبيس و26 و36 بالمنصورة و68 بميت غمر    ادِّعاء خصومات وهمية على السلع بغرض سرعة بيعها.. الأزهر للفتوي يوضح    محافظ الجيزة يفتتح قسم رعاية المخ والأعصاب بمستشفى الوراق المركزي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ما جرى في باريس (3) ... ما بعد الصدمة
نشر في محيط يوم 23 - 11 - 2015

عندما يرتدي سبعة «شباب صغار» أحزمة ناسفة، ليفجروا أنفسهم «انتحارا» في وقت متزامن في أماكن مختلفة في عاصمة الحرية باريس، يصبح من المنطق أن تسأل لماذا "ينتحر" هؤلاء، قبل أن تتنادى إلى حرب جديدة «على الإرهاب»، أخشى ألا تكون نتيجتها إلا مشابهة لتلك المثيلة التي أعلنها جورج دبليو بوش في سبتمبر 2001 «حربا على الإرهاب» لم يكن نتيجتها إلا مزيدا من الإرهاب.
باريس .. بعد ما جرى (عمرو نبيل AP)
قبل أن نتنادى «للحرب على الإرهاب»، أليس من المنطق أن نسأل لماذا «ينتحر» هؤلاء؟
ربما لا يمكن أن نعرف الأسباب التي دفعت تنظيم الدولة إلى «التدويل» المفاجئ لعملياته بهذا الشكل. سواء كانت رد فعل على خسارته على الأرض كما جرى في «سنجار» أو كردة عصبية لما بدا تنازلا غربيا أمام محاولات الروس إعادة الأسد إلى المعادلة. لن نعرف على وجه الدقة ما كان يدور في رؤوس مخططي الكواليس، كما لن نعرف على وجه اليقين ماذا كان في رؤوس انفجرت للقائمين بالهجمات. ولكننا سمعنا على الأقل روايات قالت بأن من مهاجمي المسرح الباريسي من صرخ بعبارات «دينية» وبأخرى تشير إلى معاقبة الفرنسيين على تدخلهم الأخير في سوريا.
لا يلجأ الأطباء للتعامل مع الورم السرطاني «جراحيا»، إلا إن كان بوسع الجراحة أن تستأصل كامل الورم، وإلا فإن النتيجة المحتومة لضربة المشرط غير المكتملة هي انتشار الخلايا السرطانية في الجسد كله. شيء من ذلك يشبه ما نراه اليوم نتيجة لما يتوهمه البعض من أن قذائف الطائرات تقصف هذه المنطقة أو تلك في سوريا أو البصرة أو اليمن أو سيناء يمكن لها أن تقضي على فكر يعشش في رؤوس لا مانع لديها من الموت انتحارا في ملعب للكرة أو قاعة مسرح أو حسينية شيعية، أو ميدان في أنقرة.
أرجوكم تذكروا أن بن لادن الذي طاردته «حرب بوش» لسنوات مات.. ولكن «الإرهاب» لم يمت. أ
ن ندين الإرهاب (بكل أشكاله)، فهذا من نافلة القول، ومما لا يحتاج إلى تأكيد أو تكرار. ولكن لنتفق بداية على أن أسلحة العالم كله مهما بلغت ضراوتها؛ صواريخ باليستية أو طائرات بدون طيار لن تنجح في مواجهة مراهق يرتدي حزاما مفخخا في مطعم باريسي أو ساحة تركية. إذ أن في مثل تلك مواجهة مع من اختار «الانتحار» أسلوبًا للحرب، تسقط تلقائيا فكرة «الردع» الكامنة في صور العروض العسكرية أو قوة السلاح. كما تسقط بداهة كل التكتيكات العسكرية التقليدية القائمة على قصف «أراضي» العدو، الذي باتت أراضيه واقعيا هي المسارح والمطاعم ومحطات المترو وساحات كرة القدم الواقعة «إحداثياتها» جغرافيا في شوارعك وعواصمك، وإنسانيا في تفاصيل حياتك اليومية.
ثم لنتفق ثانية على أنه بعد اثني عشر عاما على وقفة جورج دبليو بوش الطاووسية على حاملة الطائرات Abraham Lincoln (مايو 2003) ليعلن ما تصوره نجاحا لحربه على الإرهاب Mission Accomplished، كان تنظيم «الدولة الإسلامية» قد نجح واقعيًّا في أن يسيطر على مساحات شاسعة من أراضي "دولتي" سوريا والعراق (!)
هل نجح بوش في «حربه على الإرهاب»، سواء بطائراته أو صواريخه الموجهة أو بإرسال المشتبه بهم إلى مراكز الاستجواب «والتعذيب» في العواصم العربية؟ من لم يقرأ الإجابة في التقرير المهم للكونجرس الأمريكي أواخر العام الماضي (6700 صفحة) فربما يكفيه أن ينظر إلى أخبار الشرق الأوسط وأفريقيا الدموية / اليومية من أفغانستان وباكستان شرقا إلى مالي ونيجيريا غربًا.
أرجوكم تذكروا أن بن لادن الذي طاردته «حرب بوش» لسنوات في كهوف «تورا بورا»، مات .. ولكن «الإرهاب» لم يمت. لماذا؟ لأن بيئته «الشرق أوسطية» الحاضنة ظلت هناك؛ أنظمة لم تعدل يوما بين مواطنيها. وأخرى لم تدرك أبدًا خطر اللعب بنار الطائفية حتى أمسكت في أطراف ثيابها في نهاية المطاف.
أرجوكم تذكروا أن إضعاف «القاعدة»، أو حتى المقتل «الهوليودي» لبن لادن، لم يمنع ظهور داعش الأكثر قوة وانتشارا ودموية. أكرر : إذا بقيت الأسباب ستبقى النتائج. وإن لم نجب عن السؤال الرئيس: من أين يأتي التطرف وأين تجد يذوره تربتها الملائمة، لن نجني غير مزيد من الطائرات تذهب محملة بالقذائف إلى الشرق الأوسط، ومزيد من الأحزمة الناسفة يتأزر بها في الساحات الأوربية أولئك الباحثون عن حظهم في السماء.
إذا بقيت الأسباب ستبقى النتائج. وإن لم نعرف: من أين يأتي التطرف وأين يجد تربته الملائمة، لن نجني غير مزيد من الدماء
لا يحتاج الأمر إلى أكثر من النظر إلى الخريطة لندرك أن الاستبداد والتمييز والقمع وهيمنة ثقافات التلقين والاتباع والمجتمع الأبوي الذكورية، فضلا عن الإحساس بغياب العدل وعدم المساواة هى العوامل الرئيسة التى توفر البيئة المناسبة لأفكار متطرفة تبحث عن العدل في السماء حين يعز عليها أن تجده على الأرض.
سيجادل البعض. عن حق أو عن غفلة فيذكرنا بأن قتلة المسرح الباريسي، مثلهم مثلما كان قتلة «شارلي إبدو» فرنسيين أو حتى باريسيين، ناسيا قضايا الاندماج والهوية ومسألة «الضواحي» والتي لم يتردد رئيس الوزراء الفرنسي نفسه بشجاعة ضرورية أن يصف بعضًا مما فيها بأبارتهايد اجتماعي. un apartheid territorial, social, ethnique كما ينسى هؤلاء أهمية الإنصات إلى صرخات المهاجمين «التلقائية»، أو على الأقل «لسان حالهم». الأخير قال أنهم يردون على الهجمات الفرنسية على سوريا. وقبل أشهر قرأنا على صفحة حياة بومدين زوجة محتجزي المطعم اليهودي وصديق جناة شارلي إبدو في يناير الماضي إشارتها إلى « مذابح الأبرياء فى فلسطين، والعراق، وأفغانستان،
ألا يذكركم ذلك كله بعبارة بن لادن الشهيرة فى 2002: «كما تَقتلون ستُقتَلون.. وكما تَقصِفون ستُقصَفون...»؟
لا عاقل بالتأكيد بوسعه أن يبرر جرائم هذا أو ذاك، ولكن لا عاقل أيضًا بوسعه أن ينكر إن أردنا «فهما يتجاوز الإدانة، وصيحات الحرب» أن الفكرة قائمة فى كثير من الأذهان؛ هنا وهناك. وأن كثيرا من السياسات تستدعيها وتضع تحت مقولة بن لادن مائة خط. وعودوا من فضلكم إلى التصريحات الأخيرة «الجريئة» لوزيرة الخارجية السويدية Margot Wallström
هو الإحساس إذن بالظلم والتمييز والعنصرية، أيا كان نطاقه الجغرافي؛ محليا أو عالميا، وأيا كان مصدره؛ حاكما محليا مستبدا، أو نظاما عالميا يفتقد العدل والمساواة.
الخوف كل الخوف، أن تحت لافتة «الحرب على الإرهاب»، يغض العالم الحر الطرف عن القمع الذى هو فى الواقع «المفرخة» الحقيقية للإرهاب
أخشى أن «صدمة الدماء الفرنسية» المروعة، قد تستدرج البعض إلى تكرار «حرفي» لتجربة بوش العقيمة تحت اللافتة الجذابة البراقة: «الحرب على الإرهاب» دون أن يتوقف عند نتائجها المروعة أيضا والتي لم تخرج عن كونها قد أتت بمزيد من الإرهاب بعد أن تجاهلت الأسباب الحقيقية للتطرف في منطقتنا الشرق أوسطية المنكوبة باستبداد أنظمتها الحاكمة من ناحية، وبالتمييز «واللا عدالة» في السياسات الدولية من ناحية أخرى.
كما أخشى أن نجد لدينا من يستثمر ما جرى لحسابات داخلية، فينفخ في النار محاولا استدراج الغرب «المصدوم» إلى الاصطفاف تحت اللافتة ذاتها، غاضًا الطرف عن ممارسات قمعية وتمييزية هي في حقيقة الأمر التي هيأت التربة لنمو أفكار متطرفة تتغذى على ثقافة منغلقة يسهل ترويجها يبن المحبطين الذين يئسوا من أن يجدوا طريقا إلى العدل والمساواة. إذ يبقى مثيرا أن الذين هيأوا التربة خصبة لبذور الإحباط فالتطرف ومن ثم «الإرهاب» هم الأكثر سعادة اليوم بارتفاع رايات الحرب على الإرهاب في عواصم النور والحرية وثراء التنوع الثقافي.
للمرة الألف، كلنا نريد نجاحا للحرب على الإرهاب. علينا فقط أن نعرف أن لنجاح مثل تلك الحرب شروطا، إن لم يسلم بها ذوي العلاقة من حكومات وأنظمة، فنحن نحرث في البحر، أو على أفضل تقدير نكرر تجربة بوش الفاشلة:
1 مجتمعات وأنظمة تعرف قيمة الحرية والديموقراطية والمواطنة الحقيقية واحترام حقوق الإنسان.
2 نظامٌ حاكم يدرك أن التمييز؛ سياسيا، أو طائفيا، أو قبليا، أو طبقيا يؤدي بالضرورة إلى غياب الإحساس لدى الناس بالمساواة فضلا عن المواطنة الكاملة، فتحل الانتماءات الأدنى (للجماعة أو الطائفة أو القبيلة) محل الانتماء للدولة أو للقيم الانسانية المشتركة. ومع الإحساس بفقدان الأمل في العدل يبحث عنه الناس (وخاصة الشباب) في «الحياة الآخرة» حيث الجنة ملاذا موعودا ومضمونا.
3 تعليمٌ معاصر لا يقوم على الحفظ والتلقين (والإجابات النموذجية) بل يحترم قيمة العقل ويعرف التفكير النقدي Critical Thinking. فالذي لم يتعلم أن يفكر وأن يقول «لا» لأبيه أو لمعلمه أو لمديره أو لرئيسه، لن يسمح عقله بأن يقول «لا» لأمير هذه الجماعة أو تلك حتى لو طلب منه ارتداء حزام ناسف. باختصار: «التفكير النقدي» الذي نفتقده في تربيتنا وتعليمنا، وقبل ذلك في «نظامنا السياسي» هو الحصانة الوحيدة.
4 احترامُ الآخر، وحقَه في أن يكون «آخر» بمعنى أن يكون «مختلفًا». علما بأن لا حدود لهذا الاختلاف.
5 التخلص من تلك الثقافة المركزية القائمة على «الفرد»، أيا ما كانت صفة هذا الفرد أو مكانته؛ خليفة، أو أميرا، أو مرشدا، أو رئيسا، أو زعيما، أو مديرا للعمل، أو رب أسرة.
6 العدل .. ثم العدل .. ثم العدل؛ الذي يعرف أن «العدالة إحساس» يتجاوز ما في القوانين من نصوص، والذي يدرك أن ليس «لفاطمة» ما ليس لغيرها.
هذا زمن جديد، لا يحتاج إلي السلاح بقدر ما يحتاج إلى جهد «فكري» يبحث عن «ثقافة عولمية جديدة»
أتابع قلقًا «المسكوت عنه» مما يتواتر هنا وهناك خاصة بين العامة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. وأخشى وسط هيستريا العنف والكراهية، أن بَعضنَا؛ هنا وهناك يحتاج أن يتريث قليلا، ويعيد قراءة التاريخ.
لأجل عالم أكثر تسامحا وفهما، وفي مواجهة طوفان الصور المرعبة، يحتاجُ بعضُ الأوربيين اليمينيين (كما يحتاج بعضُنا بالمناسبة)، أن يعرفوا أن العنفَ والدماء والوحشية ليسوا صناعة إسلامية، فتاريخهم فيه من الدماء والحروب الأهلية «والعالمية» ما هو أكثر (عدد ضحايا الحرب الأهلية في أسبانيا 1936- 1939 يصل إلى خمسمائة ألف. وعدد ضحايا الحربين العالميتين يتجاوز الستين مليونا)
لأجل عالم أكثر أمنا، يحتاج المسلمون أن يتعلموا أن الديموقراطية التي يسمحون لمستبديهم بانتهاكها أو تزييفها، وأن حرية التعبير التي يتحسسون منها بدعوى (المقدس / الخصوصية الثقافية) هي التي قضت على العنصرية والعبودية في أمريكا وهي انتقلت بأوروبا من ظلام العصور الوسطى واستعلاء المستعمرين إلى ثقافة أكثر إنسانية وحضارة، وأكثر احتراما للآخر، وأكثر استعدادا للدفاع عن الحق والعدل.
يحتاج الأوربيون أن يتذكروا، والمسلمون أن يتعلموا أن ثقافة الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان هي التي انتقلت بهؤلاء المستعمرين القدامى من همجيين يأتون بالسكان الأصليين ليتسروا بمشاهدتهم في أقفاص «حدائق الحيوان»، إلى مدافعين عن البيئة «وحقوق الحيوان»، وإلى منقذين يوميين لأولئك المهاجرين «غير الشرعيين» إلى سواحلهم المتوسطية.
كما يحتاج المسلمون قبل ذلك كله أن يتذكروا أن هذه «الثقافة الراقية» هي في الأصل بضاعتهم، وأن بعضا مما أسهموا به؛ فلسفة وثقافة وفكرا حرا كان رافدا مهما لنهر حضارة تنير العالم اليوم. (ابن خلدون وابن رشد مثالا). ولكن عليهم أن يتذكروا أيضًا أن ذلك كله كان قبل أن يأخذهم المستبدون «وفقهاؤهم» عبر تاريخهم الطويل إلى ما صرنا إليه من تخلف وفاشية. لا يختلفُ الحجاجُ بن يوسف الثقفي عن صدام حسين، كما لا يختلف فساد دولة أضاعت ما كان من مجد و حضارة «إنسانية» في الأندلس عن فساد هذا النظام أو ذاك في الدولة العربية الحديثة.
يحتاج المسلمون الذين تَعيَّش مستبدوهم على ثقافة إنكار الآخر أن يُعيدوا قراءة الآية «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ». كما يحتاجون أن يُذَكِّروا مستبديهم الذين يريدونهم «تابعين خاضعين» بإدانة كل حوار ونقاش وسؤال، أن إبراهيم عليه السلام لم يتردد أن يسأل ربه «كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي»
كما يحتاج أولئك الذين يهربون من خواء الحاضر إلى استحضار شعارات ماض لم تعد صالحة لعصر نعيشه؛ «خلافة أو إمارة» أن يدركوا لغة العصر و حقائقه.
وقبل كل ذلك يحتاج هؤلاء وأولئك على جانبي المتوسط أن يدركوا أن هذا عصر جديد لم تعد فيه حدود على الأرض، ولا في السماوات المفتوحة لتدفق المعلومات والأفكار والثقافات، وأن الصور تقول أن عدد «المحجبات» في شوارع أوروبا قد لا يقل (أحيانا) عن عددهن في هذه العاصمة العربية أو تلك، وأن الجيل الثالث من المهاجرين «كاملي المواطنة» قد باتوا جزءا من نسيج المجتمع. وأن الحاجة باتت ماسة وملحة لجهد فكري (لا عسكري) يعكف عليه مثقفون من الجانبين في جلسات عصف ذهني تبحث عن أول الطريق لثقافة «عولمية» جديدة.
وبعد..
فهذه هي المرة الثالثة هذا العام الذي أكتب فيها عن ما جرى في باريس. وكنت قد كتبت عشية جريمة «شارلي إبدو» أن الخوف كل الخوف، أن تحت لافتة «الحرب على الإرهاب» تصطف نظمٌ غربيةٌ ديمقراطيةٌ إلى جانب نظمٍ عربيةٍ استبدادية، وتحت اللافتة وتلويحا بفزاعتها، يغض العالم الحر الطرف عن القمع الذى هو فى الواقع «المفرخة» الحقيقية للإرهاب. وأن الخوف كل الخوف أن يكون هناك من نسى كيف ساند الغرب لعقود أنظمة الشرق الأوسط الاستبدادية «طمعا في النفط والاستقرار». فكان ما كان.
هل هناك معنى لأن أكرر ما كتبت. أم أن السيف قد سبق العزل.
نقلا عن "الشروق" المصرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.