الرحلة إلى حج بيت الله الحرام، رحلة خير وبركة على من وفق الله -تبارك وتعالى- ومن خيرات هذه الرحلة أنها مشرع روي، وسبيل من سبل التصنيف عند العلماء؛ يدونون فيها مروياتهم، ويكتبون فيها ملاقاتهم بالعلماء، ويذكرون فيها اختياراتهم العلمية في أبواب العلم المختلفة. وكان من أغراض تدوين مذكرات غالبية الرحالة والمؤرخين هو إطلاع مواطنيهم على طرق الحج إلى مكةالمكرمة ووصف أحوال هذه الطرق وما يقابله المسافر فيها، ، وحرصوا على تدوين طرق حجهم وعودتهم بل أنهم أزجوا النصح لمواطنيهم أي الطرق يسلكون في حجهم بعد أن مروا بتجارب عديدة على طول خط الرحلة وذكروا لنا مدي عناية أمراء الحج بهم وما لاقوه من مشقة وجهاد . وقد نالت مكة احتراماً من عرب الجاهلية لوجود الكعبة فيها التي كانوا يتبركون بها ويطوفون حولها ، ويعبدون أصنامهم المنتشرة حولها ، ثم جاء الإسلام لتصبح الكعبة محجهم وقبلتهم يتوجهون إليها أينما كانوا ، ويحجون إليها متى استطاعوا إلى ذلك سبيلاً . هكذا يؤكد د. عمرو منير، الباحث بالتراث الشعبي، بدراسته المنشورة عن أمراء الحج في عهد الخلافة الراشدة؛ فقد أرسل (صلى الله عليه وسلم) يرسل من ينوب عنه فكان عتاب بن أسد ، وكان أبو بكر الصديق ، ثم تولى موسم الحج بنفسه (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع مبيناً للناس مناسكهم من وقوف بعرفة ونزول إلى المزدلفة ، إلى رمي الحجرات ونحر الاضحيات وطواف حول الكعبة ، وهكذا . فلما رحل النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى بارئه ترك أمر الإشراف على الحج وهداية الناس ، وتولى شؤونهم إلى خلفائه الراشدين من بعده ثم من تلاهم من ولاة أمر المسلمين . وهكذا عنى بأمر الحج والحجيج خلفاء النبي (صلى الله عليه وسلم ) وحكام الدول الإسلامية التي قامت من بعد . فكانوا يرسلون الأمراء لحفظ الأمن بين الحجيج وإقامة شرع الله بينهم في سفرهم الطويل آنذاك وعند نزولهم مكة أو المدينة لأداء المناسك أو عند زيارة قبر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم) والاهتمام بالكعبة وإكسائها اللباس اللائق بها ، ووضع الستائر على باب حجرة الرسول وإجراء الإصلاحات المطلوبة من توسيع الحرم المكي أو مسجد الرسول إلى بناء المدارس أو توزيع الأعطيات على المجاورين من الفقراء وإكرام سكان الحرمين من أهل مكةوالمدينة لذلك كان موسم الحج موسم خير لهم فيه الأعطيات والهبات والصدقات الآتية من بقاع إسلامية مختلفة بعضها من أقصى بلاد المغرب والأخرى من أقصى بلاد المشرق الإسلامي . في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) أقام الحج في سنة ثمان من الهجرة عتاب بن أسيد أبي العيص بن أمية ، وهذه السنة هى التي تم بها فتح مكة وإخضاعها لحكم الإسلام وقد وقف المسلمون مع أميرهم عتاب يؤدون مناسك الحج ويدفعهم ويقف بهم المواقف لأنه أمير البلد فكان أول أمير أقام الحج في الإسلام بينما وقف سائر الناس على منازلهم في الحج التي كانوا عليها في الجاهلية يدفعهم ويقف بهم أبو سيارة العدواني . وأقام الحج سنة تسع أبو بكر الصديق وقد أرسله النبي (صلى الله عليه وسلم) على رأس ثلثمائة من المسلمين من المدينةالمنورة ، وبعث النبي (صلى الله عليه وسلم ) معه بعشرين بدنة ، قلدها وأشعرها بيده عليها ناجية بن جندب الأسلمي ، وحج المشركون على مواقفهم في الجاهلية إلا أنهم أُبلغوا على لسان علي بن أبي طالب (رضي الله عنه ) الذي أرسله النبي (صلى الله عليه وسلم ) بعد أبي بكر أن هذه آخر حجة لهم على دين الوثنية ، وأنه لن يقرب المسجد الحرام بعد ذلك العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان . يقول الطبري : "سنة تسع وفيها حج أبو بكر بالناس ثم خرج أبو بكر من المدينة في ثلاثمائة وبعث معه رسول الله صلى الله عليه و سلم بعشرين بدنة وساق أبو بكر خمس بدنات وحج فيها عبدالرحمن بن عوف وأهدى وبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب عليه السلام على أثر أبي بكر رضي الله عنه فأدركه بالعرج فقرأ علي عليه براءة يوم النحر عند العقبة فحدثني محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن المفضل قال حدثنا أسباط عن السدي قال لما نزلت هذه الآيات إلى رأس الأربعين يعني من سورة براءة فبعث بهن رسول الله مع أبي بكر وأمره على الحج فلما سار فبلغ الشجرة من ذي الحليفة أتبعة بعلي فأخذها منه فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء قال لا ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك صاحبي على الحوض قال بلى يا رسول الله فسار أبو بكر على الحج وسار علي يؤذن فقام يوم الأضحى فآذن فقال لا يقربن المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا ولا يطوفن بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فله عهده إلى مدته وإن هذه أيام أكل وشرب وإن الله لا يدخل الجنة إلا من كان مسلما فقالوا نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب فرجع المشركون فلام بعضهم بعضا وقالوا ما تصنعون وقد أسلمت قريش فأسلموا ". وتولى الإمرة في سنة اثنتي عشرة أبو بكر (رضي الله عنه ) نفسه ، وقال بعض رواة الأخبار أن أبا بكر لم يحج في خلافته . وتولى إمارة الحج في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في سنة ثلاث عشرة عبد الرحمن بن عوف الزهري فحج بالناس وحج مع عمر أيضاً آخر حجة حجها عمرُ سنة ثلاث وعشرين وفي رواية أخرى :"أنه حج بالناس فيها عَتَّابُ بنُ أسيد " وتولاها سنة أربع عشرة الخليفة نفسه ، ثم تولاها في السنين التالية مدة خلافته ،وقد حج عمر في خلافته تسعاً بحسب بعض الآراء. وحج بأمهات المؤمنين في آخر حجة حجها وهدم مسجد الرسول -r- وزاد فيه وأدخل دار العباس بن عبد المطلب فيما زاد ، ووسّعه وبناه لمّا كثر الناس بالمدينة ، وهو أول من ألقى الحصى في المسجد النبوي ، فقد كان الناس إذا رفعوا رؤوسهم من السجود نفضوا أيديهم ، فأمر عمر بالحصى فجيء به من العقيق ، فبُسِط في مسجد الرسول -صلى الله علي وسلم وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) فقد تولى إمارة الموسم (الحج) عبد الرحمن بن عوف وذلك في سنة أربع وعشرين ، وقيل أن الخليفة نفسه حج بالناس في تلك السنة ، أما بقية سنى حكم الخليفة عثمان فقد تولى بنفسه إمارة الحج . أما أمراء الحج في عهد على بن أبي طالب (رضي الله عنه) وقد شغل هو عن الحج بنفسه فقد كانوا عبد الله بن عباس وقد تولى إمارة الحج ف سنة ست وثلاثين ، وسبع وثلاثين ، وقيل كما في رواية للطبري أن الذي حج سنة سبع وثلاثين عبيد الله ابن عباس . وفي حج عبد الله بن عباس في سنة ثمان وثلاثين خلاف أيضاً فقد قيل أن الذي حج كان قثم بن العباس . ويبدو أن الطبري أميل لجعل الأمير قثم لأنه لم يورد رواية معاضة ، ولأن قثم كان عامل على مكة . وحج بالناس شيبة بن عثمان الحجبي سنة تسع وثلاثين . وهذا الرجل لم يرشحه الخليفة على بن أبي طالب ، إنما كان قد رشح للإمارة عبد الله بن عباس وقيل قثم ابن العباس ، ,ان معاوية بن أبي سفيان أرسل من قبله يزيد بن شجرة أميراً للحج فتنازع الرجلان ثم اصطلحا على إمارة شيبة . يقول الباحث د. عمرو منير : رغم ندرة المعلومات عن تكلفة الحج في عهد الخلفاء فقد وردت إشارة في تاريخ الطبري عن متوسط تكلفة الحج في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله :" حدثني أحمد بن عمرو قال حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال حدثنا عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة عن ابيه قال مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السوق ومعه الدرة فخفقني بها خفقة فأصاب طرف ثوبي فقال أمط عن الطريق فلما كان في العام المقبل لقيني فقال يا سلمة تريد الحج فقلت نعم فأخذ بيدي فانطلق بي إلى منزله فأعطاني ستمائة درهم وقال استعن بها على حجك".، " وحج عمر فأنفق في ذهابه ومجيئه إلى المدينة ستة عشر ديناراً، وقال لولده عبد اللّه: لقد أسرفنا في نفقتنا في سفرنا هذا".!! بينما واقع حال المسلم الآن الراغب في الحج يراه بمثابة حلم يراوده (ربما) لعشرات السنين، يعزم له طيلة الليالي والأيام، حتى يتسنى له جمع المال اللازم ليقضي مناسك الحج وعلى المسلم أن يضحي بالغالي والنفيس لكي يجمع تكاليف الوصول للديار المقدسة، ويطوف بالكعبة المشرفة!