داخل ساحات المسجد الأقصى، يلف عشرات الشبان الفلسطينيين والفتية الصغار وجوههم بقطع قماش صغيرة، على هيئة "لثام" يتكفل بالتغطية والتمويه على ملامحهم، وإخفاء شخصياتهم، خوفاً من اعتقالهم من قبل عناصر الشرطة الإسرائيلية الذين يتربصون بهم ويترصدون تحركاتهم. لا يتجاوز عددهم بضعة عشرات، يقولون إنهم أخذوا على عاتقهم منع الحكومة الإسرائيلية من تنفيذ مخططها ب"تقسيم" المسجد الأقصى، وأن الحجارة في أياديهم ستغدو نصراً. يقول أحدهم من داخل المسجد القبلي المسقوف بالأقصى، للأناضول، وقد فضل عدم ذكر اسمه أو مكان إقامته، خوفاً من تعقب الشرطة الإسرائيلية: "نرى أن من واجبنا الدفاع عن الأقصى في وجه المخططات الإسرائيلية للاستيلاء عليه وتقسيمه، وهذا ما نقوم به بالحجارة، والأحذية، وكل ما تصل إليه أيادينا". وعلى الرغم من تغطية وجوههم باللثام، إلا أنه بالإمكان التقدير بأن أعمارهم تتراوح ما بين 18-25 عاماً. وتشير ألوان اللثام التي يستخدمونها إلى تنوع انتمائتهم السياسية، فمنهم من يرتدي العُصبة الخضراء التي يستخدمها نشطاء حركة "حماس"، والسوداء التي يستخدمها نشطاء "الجهاد الإسلامي"، والكوفية السوداء التي يستخدمها نشطاء "فتح"، والحمراء التي يستخدمها نشطاء "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين". ويتواجد الشبان الملثمون بين المصلين في فترات صلاتي العشاء والفجر، ويُلاحظ أنهم يحظون بالتقدير من قبل المصلين. وقال أحمد، وهو مصل ستيني، للأناضول، مفضلاً عدم ذكر اسم عائلته للسبب نفسه المذكور أعلاه: "هؤلاء الشبان رأس الحربة، يدافعون عن شرف الأمة الإسلامية جمعاء". وتبدأ مهمة الشبان في الفترة المسائية حيث يبدأون بجمع الحجارة من الساحات القريبة بالمصلى القبلي المسقوف، ويضعونها في حاويات بلاستيكية، أو على سجاد صغير لتفادي اتساخ سجاد المسجد. وفي محاولة منهم لمنع قوات الشرطة من اقتحام المسجد المسقوف، يستخدمون بعد صلاة الفجر، مظلات كبيرة، ورفوف خشبية، كمتاريس عند إحدى بوابات المسجد، بحسب أحد حراس الأقصى متحدثاً للأناضول. وباستثناء حراس المسجد الأقصى، فإن الشرطة الإسرائيلية تمنع المصلين من التواجد في المسجد، خلال فترة ما بعد انتهاء صلاة العشاء وحتى ما قبل صلاة الفجر. وغالباً ما ينجح المرابطون في التواري عن أعين أفراد الشرطة الإسرائيلية، فيتحصنون داخل المسجد القبلي حتى صلاة الفجر، ويتنفسون الصعداء حتى بدء المواجهة التي في الأغلب ما تكون في الساعة السابعة صباحاً بالتوقيت المحلي(04.00 تغ) قبل ساعة واحدة من بدء الاقتحامات الإسرائيلية للمسجد في الثامنة صباحاً (05.00 تغ). يقول الشاب الملثم: "نمضي الليل داخل المسجد القبلي، نصلي ونقرأ القرآن، ونتضرع إلى الله نصراً أو شهادة". وغالباً ما يحرص الشبان على الاعتكاف في المسجد عندما تعلن منظمات إسرائيلية نيتها اقتحام المسجد بمناسبة الأعياد اليهودية، حيث تحرص الشرطة الإسرائيلية في تلك الأوقات على عدم دخول الشبان إلى المسجد. في المقابل، يضطر الشبان في بعض الأحيان إلى الدخول للمسجد خلال ساعات النهار، لتفادي منع الشرطة لهم من الدخول في ساعات المساء أو قبل صلاة الفجر. وعلى مدى الأيام الثلاثة الماضية، خاض الشبان مواجهات عنيفة مع الشرطة الإسرائيلية، لفترات تصل إلى 4 ساعات يومياً، اضطر خلالها بعضهم للخروج بعد إصاباتهم برصاصات مطاطية، أو بالاختناق نتيجة استنشاق الغاز المسيل للدموع الذي أطلقته باتجاههم الشرطة الإسرائيلية. من جهته، قال عزام الخطيب، مدير ادارة الأوقاف الإسلامية في القدس، للأناضول إن "عناصر الشرطة الإسرائيلية دخلوا خلال اقتحاماتهم الأخيرة في الأيام الماضية بأحذيتهم وعتادهم إلى داخل المسجد القبلي المسقوف، ووصلوا إلى منبر المسجد المعروف باسم منبر صلاح الدين". وبحسب شهود عيان، فإن القوات الإسرائيلية كانت تسعى لاعتقال أولئك الشبان،غير أنها لم تتمكن من ذلك. وأطلق عناصر الشرطة، خلال الأيام الثلاثة الماضية، قنابل الصوت، والغاز المسيلة للدموع، والرصاص المطاطي، على هؤلاء الشبان، من خلال نوافذ المسجد القبلي، ما أدى إلى إتلاف العديد من هذه النوافذ، بحسب مراسل "الأناضول". وتحمّل الشرطة، هؤلاء الشبان، المسؤولية عن الاشتباكات التي تقع في المسجد، وهو ما ينفيه المسؤولون في إدارة الأوقاف الإسلامية التابعة للحكومة الأردنية. واستهدفت الشرطة، من اقتحاماتها المتكررة للمسجد، منذ مطلع الأسبوع الجاري، إخلاءه من جماعات "المرابطين والمرابطات"، التي أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعالون، عنها الأسبوع الماضي، "تنظيما غير مشروع". يشار إلى أن المرابطين والمرابطات، هم مصلون من القدسالشرقية، والفلسطينيون القاطنون داخل إسرائيل، (يعرفون محليا بعرب إسرائيل، أو فلسطينيو الداخل)، ويتواجدون في المسجد الأقصى بهدف منع المستوطنين اليهود من اقتحامه وأداء طقوس دينية يهودية فيه. من جانبها، قالت لوبا السمري، المتحدثة باسم الشرطة الإسرائيلية، في تصريح مكتوب أرسلت نسخة منه للأناضول: "في أعقاب معلومات إستخباراتية تراكمت عند الشرطة وجهاز الأمن العام (الشاباك) حول تحصن شبان عرب، قسم منهم ملثمين، خلال ساعات الليلة الماضية، بالمسجد الأقصى في الحرم القدسي الشريف، استعدت قوات الشرطة بالعدة والعتاد والقوى المعززة، لدخول باحات حيز الحرم لمواجهة ومعالجة أي سيناريو كان". ولوّحت السمري ب"التصدي لأية محاولة للإخلال بالنظام والسكينة العامة والوضع الراهن بالحرم القدسي الشريف، مع تقديم الضالعين فيها للعدالة، وإيقاع أقصى العقوبات بحقهم". غير أن المسؤولين في الأوقاف الإسلامية يحملون الشرطة المسؤولية عن تفجر الأوضاع داخل المسجد. وقال الشيخ عمر الكسواني، مدير المسجد الأقصى، للأناضول: "الشرطة التي تقتحم ساحات المسجد الأقصى، دائماً ما نطالبها بإغلاق باب المغاربة أمام اقتحامات المستوطنين، من أجل تفادي التوتر والتصعيد، لكنها لا تستجيب لنا، وعليه فإنها هي من يتحمل المسؤولية". ويقول الفلسطينيون إن إسرائيل تسعى إلى تقسيم المسجد الأقصى زمانيًا ومكانيا، بين المسلمين واليهود، وهو ما يرفضه المسلمون، ويرون فيه مساسًا بحقهم الديني. ويؤكد المسلمون على أن المسجد الأقصى لهم وحدهم، حيث قالت الهيئة الإسلامية العليا، وهي أعلى هيئة إسلامية في القدس، في وثيقة، صادرة عنها مؤخراً، إن "المسجد الأقصى المبارك- كل ما دار عليه السور- بكامل مساحته، ومصلياته، وساحاته سواء أكانت تحت الأرض أم فوقها، هو مقدس إسلامي خالص وحصري، ولا يوجد لليهود أو لأي طرف آخر حق ولو في ذرة تراب منه". لكن إسرائيل تقول إن المسجد أُقيم على أنقاض الهيكل، ولذلك تعتبره من أماكنها المقدسة، وتشير إليه باسم"جبل الهيكل". وفي السنوات الأخيرة كثفت جماعات يهودية من اقتحاماتها للمسجد الأقصى، تحت حراسة الشرطة الإسرائيلية. ولم تقتصر الاقتحامات على الجهات اليمينية المتشددة، إذ قام وزراء وأعضاء كنيست(برلمان) من أحزاب يمينية مثل "الليكود"، و"البيت اليهودي"، بالمثل. وفي سبتمبر/أيلول عام 2000، أدى اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، أرئيل شارون للمسجد، إلى اندلاع ما عرف بانتفاضة "الأقصى". وبعيداً عمّا حصل في الأقصى خلال الأيام الماضية، تعتبر الحجارة، والزجاجات الحارقة من بين الوسائل الأكثر شيوعاً في المواجهات بين الفلسطينيينوالقوات الإسرائيلية. وعلى ذلك، فإن ثمة أحكام إسرائيلية مشددة تُفرض على ملقي الزجاجات الحارقة تصل إلى السجن لعدة سنوات، وكذلك الأمر بالنسبة للحجارة التي قررت الحكومة الإسرائيلية تشديد العقوبات على ملقيها بما يصل إلى السجن 20 عاماً. وكان عدنان الحسيني، وزير شؤون القدس ومحافظ المدينة، صرح للأناضول في وقت سابق، أن "عمليات رشق الحجارة هي رد فعل على ممارسات الشرطة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، فعندما تستخدم قوات الاحتلال قنابل الصوت، والقنابل المسيلة للدموع، والرصاص المطاطي، فإن من الطبيعي أن يرد الناس بما هو متوفر لديهم وهي الحجارة". وتعيد حوادث رشق الحجارة في المدينة إلى الأذهان، الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي بدأت في ديسمبر/كانون أول 1987، واستمرت عدة سنوات، حيث يستخدم الشبان الملثمون الحجر والمقلاع اللذين كانا من أهم الأدوات التي يستخدمونها للدفاع عن أنفسهم، ومقاومة الإسرائيلي عندما يدخل للأزقة والشوارع بالعربات العسكرية، إلى جانب استخدامهم الإطارات، وحاويات النفايات الكبيرة لإغلاق الشوارع التي تقع فيها المواجهات.