لعبة "فرّق تَسُد" وُجدت مع الإنسان بعد بدء الخليقة بقليل، وكانت ممارسة تقليدية لجميع الإمبراطوريات التي عرفتها البشرية عبر التاريخ. كان نصيب المشرق خلال القرن الماضي، في العقود التي سبقت "استقلال" دوله، النماذج السياسية التي اختارتها بريطانيا أو فرنسا والتي اعتمدت في جوهرها على زرع بذور نفس اللعبة التاريخية للإستعمار، مهما كانت هويته. اللعبة في لبنان —————————— لبنان: نموذج مدروس في الطائفية والمذهبية، التي لا تولّد سوى المحسوبيات المبنية على المحاصصة والإقطاع السياسيين، الفساد الإداري، الحساسيات المناطقية، والمناوشات العنفية الدورية، والتي تتحول إلى حروب أهلية كل بضعة عقود. هذا هو النموذج الذي خلّفه الإنتداب الفرنسي، كواحدة من آخر ألاعيب الإستعمار القديم قبل اضمحلاله نهائياً، ضمن لعبة التحكم الأزلية التي مورست عبر العصور: "فرّق تسد". النموذج اللبناني كان "ثميناً" من منطلق التفريق والشرذمة، لدرجة أنه بعد 17 عاماً من الحرب الأهلية، والتي خلفت أكثر من 150,000 قتيل، 40,000 معاق، و300,000 جريح، عدا عن 200 مليار دولار من الخسائر ... حرص الإستعمار (برعاية ممثليه الإقليميين) على الحفاظ على النموذج اللبناني عبر "اتفاقية الطائف"، مع تعديل في النسب وتدوير في المسؤوليات بين الطوائف. وهكذا، بعد مخاض حرب أهلية طاحنة، بقي لبنان في أحضان الإقطاعية الطائفية والمذهبية، واستمر أسير الفساد، المحسوبيات والمحاصصة، تنهش في سلامة اقتصاده، وتمنع امكان حصول اصلاح إداري سليم، أو تنمية متوازنة. اللعبة في العراق —————————- الاحتلال الأمريكي للعراق، وجد في النموذج اللبناني سبيلاً "مجرّباً" لتفتيت المجتمع العراقي، ودفن رواسب الإشتراكية والعلمانية التي خلفتها 35 عاماً في حكم العراق، أنظمة القوميين العرب وحزب البعث. وهكذا صِيغَ الدستور العراقي في ظل الاحتلال الأمريكي، بناءً على المحاصصة الطائفية، المذهبية والعرقية، تحت ستار "الحفاظ على وحدة العراق" وإشراك "جميع مقوماته الشعبية". طبعاً، هذا لا يشبه بشكل من الأشكال، الديمقراطية التي يمارسها الغرب في بلاده، حيث الفصل القطعي بين الدين والدولة، وحيث كل مواطن يشكل صوتاُ واحداً مساوياً لصوت أي مواطن آخر، مهما كان دينه، عرقه، أو انتماءه الحزبي أو التنظيمي. تبرير الغرب للدفع بالدستور العراقي الذي يطبّق "ديمقراطية محاصصة" مرتكزة على الدين-المذهب-العرق-المناطق كان بكل بساطة: مرحلة انتقالية لا بد منها، لأن البنية العشائرية والطائفية والعرقية هي الأقوى في المجتمع العراقي، مما يجعله غير مؤهل لتبني الديمقراطية العلمانية الحرة. وهكذا، بعد مغادرة الاحتلال الأمريكي العراق دون مكاسب عام 2011، كانت وديعته الغالية: نظام مبني على الطائفية، يفتح الأبواب مشرعة أمام تَفَجُّر فوالق الخلاف المذهبية، العشائرية، العرقية والمناطقية ... أرض خصبة للعودة في احتلال لاحق عام 2014، استناداً إلى زواج غير شرعي بين "الفوضى الخلاقة" الأمريكية و "الفوضى العارمة" القاعدية ... في تناغم قلّ مثيله بين الإثنين عبر "إدارة التوحش". ... فكانت دولة الخلافة الداعشية، وليدة الوديعة التي خلّفها الاحتلال الأمريكي وراؤه، وتذكرة العودة في احتلالٍ أشد وأشرس من احتلاله الأول ... وفي أكثر تجليات لعبة "فرّق تسد" إجراماً. اللعبة آتية إلى سوريا ————————————- "الوديعة الغالية" التي خلّفها الاحتلال الأمريكي للعراق - كانت زرع بذور العنصرية المذهبية بأيد مجرمة، صممها بصحبة مهندسي الوهّابية، نقّح إجرامها في أفغانستان، طوّر أساليبها في التفخيخ والتفجير واستخدام قتل المدنيين بالجملة للنفخ في أتون الفتنة المذهبية في شوارع بغداد، بعقوبة، العمارة، البصرة، كركوك وأربيل ... وغيرها كثير من المدن العراقية. الإستعمار، أعجبه ماأنتج عبر "الفوضى العارمة" فلقّحها بفلسفة "إدارة التوحش"، المستقاة من أصول البربرية الوهابية، حَضَّر لها رَحَماً إقليميا مخصّباً بفكر الإخوان المسلمين، ونصب نسخة من هذا الرحم في الأرض السورية، وزرع نطفتها القاعدية فيه عام 2011. النصف الثاني من 2012 شهد ولادة توأمٍ وحشيٍّ مؤصّل، غريزته الذبح والقتل ... لكن فضيلته الكبرى تكمن في العنصرية المذهبية التي رفع التوأم الوحشي رايتها السوداء، ونشرا حقدها ضد جميع الأديان والمذاهب ... لتحقيق هدف جوهري للإستعمار: محو كل أثرٍ للعلمانية، وللهوية العربية، ثم السورية. ثلاثون شهراً من حمام الدم العنصري مهد الأرضية للعبة الإستعمار المفضلة. الآن، الإستعمار الأمريكي يريد أن يحاور لأجل حل سلمي "للحرب الأهلية السورية"، وفي جعبته "الإنسانية" حلول لمشاكل "الواقع السوري المستجد": التشرذم الطائفي والمذهبي ... والحفاظ على حقوق جميع "المكونات الدينية والعرقية" في سوريا. من هذه المنطلقات، لا بد أن يكون الدستور السوري مبني على "النموذج المثال": المحاصصة الطائفية والعرقية والمناطقية. وبهذه الطريقة المموهة، سوف يحاول الإستعمار صناعة وديعته التالية: تثبيت مبدأ العنصرية المذهبية ... فيما تيسر من الأرض السورية. وهذا طبعاً ليس السيناريو الوحيد لدى الإستعمار في هذه اللحظة التاريخية (التي تمتد سنوات عديدة)، رفاهية فكفكة وتركيب قطع متعددة من الجغرافيا، يركّبها في نماذج محتملة، سوريا موجودة في بعضها وتختفي في أخرى ... هذا إذا أتيح له التركيب على هواه. الخلفية التاريخية —————————— الإشتراكية الاجتماعية التي احتلت واجهة السياسة العربية في مصر، سوريا، العراق، الجزائر، ثم ليبيا واليمن، كان لها الفضل الكبير في دفن التفرقة الطائفية والمذهبية عبر تبنيها للعلمانية، ودون أن تُلغي (كما الشيوعية) حق الممارسة الدينية. هذه الأنظمة العلمانية، ارتبطت عالميا بإطار معتدل تمثل بحركة عدم الإنحياز، لكنها في الواقع، كانت تتكيء على الإتحاد السوفياتي أولاً، والصين ثانياً بعيداً، في تأمين حمايتها الدولية في مجلس الأمن، في الأزمات الدولية الاستراتيجية (مثلاً: العدوان الثلاثي عام 1956)، في التسليح، في تطوير صناعاتها الذاتية، وفي تنفيذ مشاريعها التنموية. زوال الإتحاد السوفياتي، نتج عنه تدحرج متتالي لحجارة الدومينو التي كانت تتكئ عليه: يوغوسلافيا، دول أوروبا الشرقية، حركة عدم الإنحياز ... والإشتراكيات العربية الهجينة ... وبالنتيجة، تعملقت الآلة الحربية الأمريكية التي جابت المحيطات واحتكرت أجواء الكرة الأرضية. بعد ما يقارب نصف قرن من انتهاء الحرب العالمية الثانية، تم تنصيب الإستعمار العالمي في حلته الجديدة، دون منازع: الإمبراطورية الأمريكية. مع سقوط حجر دومينو العروبة، أصبحت ارض المشرق في جهوزية تامة للدخول في لعبة الهيمنة الأمريكية، وكون مهمتها الأولى هي ضمان وجود وسيطرة إسرائيل، كان نشر العنصرية الدينية الهدف الأول لتأمين البيئة الحاضنة للعنصرية الصهيونية. هنا بدأت اللعبة. أولى ثمارها: اتفاق الطائفاللبناني ... وتتالت الأحداث مروراً بأفغانستان، العراق، حرب تموز 2006، الربيع العربي، سوريا، فالعراق واليمن ... والخيط المشترك بينها جميعا: رعاية، تنمية وتثبيت منهج العنصرية المذهبية ليصبح مسار الأحداث في المشرق ومصيره المحتوم. لكن ... في أيار عام 2000، وتموز 2006 ... مسار معاكس فرض نفسه. الإستعمار يستمر في لعبته دون كلل أو تراجع ... ولعبته معروفة فهل نشهد تطور سريع للمقاومة إلى حركة تحرير مشرقية، تقارع الإستعمار في كل زاوية ينصب فيها راية للتطرف والعنصرية؟ ألف تحية للمقاومة في عيد انتصارها التاسع. استاذ بكلية الإقتصاد جامعة سرت