وزير الصحة يشيد بدور التمريض في رعاية مصابي غزة    البيئة: 300 مليون يورو استثمارات التوافق البيئي في الصناعة    رجل الظل| «القاتل السياسي».. اختيار كوشنر المُلهم طريق ترامب نحو رئاسة أمريكا    لليوم الثاني على التوالي.. غارة إسرائيلية تستهدف منطقة حدودية بين لبنان وسوريا    اليوم.. قطار البريميرليج يصل لخط النهاية    مدير صندوق مكافحة وعلاج الادمان: مقراتنا بالجامعات تقدم التوعية للطلاب طوال العام    إصابة 3 طلاب إعدادية في مشاجرة داخل فناء مدرسة بالمنيا    6 عروض مجانية بإقليم القناة وسيناء الثقافى    عبير صبري تهنئ ريم سامي بمناسبة حفل زفافها    وزير الصحة يؤكد اهتمام القيادة السياسية بوضع استراتيجية متكاملة لتطوير التمريض    مباشر الدوري الألماني - فرانكفورت (0)-(0) لايبزيج.. بداية المباراة    الكل متفائل.. توقعات الجماهير لمباراة الأهلي و الترجي التونسي.. فيديو    وزير التعليم: بذل كافة الجهود لدعم التمكين الحقيقي للأشخاص ذوي الإعاقة    مدبولي: مصر ستكون مركزا إقليميا لتصنيع الأجهزة المنزلية الفترة المقبلة    موعد عيد الأضحى المبارك 2024.. بدأ العد التنازلي ل وقفة عرفات    مصرع طفلة دهستها سيارة "لودر" في المرج    سائقو الشاحنات في أوكرانيا ينظمون احتجاجا ضخما اعتراضا على قانون التعبئة الجديد    خبير يوضح أسباب الانقسامات التي تضرب مجلس الحرب الإسرائيلي (فيديو)    بعد الانخفاضات الأخيرة.. أسعار السيارات 2024 في مصر    الصحة العالمية تحذر من الملح: يسبب ارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب    مصر تنافس على لقب بطولة CIB العالم للإسكواش ب3 لاعبين في المباراة النهائية    بعد الخلافات العديدة.. إشبيلية يعلن تجديد عقد نافاس    السفيرة سها جندي تترأس أول اجتماعات اللجنة العليا للهجرة    عاشور: دعم مستمر من القيادة السياسية لبنك المعرفة المصري    مسؤولو التطوير المؤسسي بهيئة المجتمعات العمرانية يزورون مدينة العلمين الجديدة    «الحرية المصري»: مصر لن تتخلى عن مسئولياتها تجاه الشعب الفلسطيني    تعرف على تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي.. في العناية المركزة    ليلة سقوط اللصوص.. القبض على 9 متهمين بارتكاب جرائم سرقات بالقاهرة    هل تستطيع إسرائيل عرقلة عمل محكمة العدل الدولية؟.. أستاذ قانون يرد    8 تعليمات مهمة من «النقل» لقائدي القطارات على خطوط السكة الحديد    محافظة القاهرة تنظم رحلة ل120 من ذوي القدرات الخاصة والطلبة المتفوقين لزيارة المناطق السياحية    فيلم فاصل من اللحظات اللذيذة يحتل المرتبة الثالثة في شباك التذاكر    البيئة: 550 مليون يورو استثمارات تمت وجارية بمجال التوافق البيئي في الصناعة    بينهم أبو تريكة.. قبول طعن 121 متهمًا على إدراجهم بقوائم الإرهاب    «المصل واللقاح»: متحور كورونا الجديد سريع الانتشار ويجب اتباع الإجراءات الاحترازية    الكشف على 1645 مواطنا في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» ببني سويف    حزب الله: استهدفنا تجمعا ‏لجنود الاحتلال في محيط ثكنة برانيت بالأسلحة الصاروخية    الأحجار نقلت من أسوان للجيزة.. اكتشاف مفاجأة عن طريقة بناء الأهرامات    أستاذ الطب الوقائي: الإسهال يقتل 1.5 مليون شخص بالعالم سنويا    طلاب الإعدادية الأزهرية يؤدون امتحاني اللغة العربية والهندسة بالمنيا دون شكاوى    جوري بكر تتصدر «جوجل» بعد طلاقها: «استحملت اللي مفيش جبل يستحمله».. ما السبب؟    مفتي الجمهورية: يجوز التبرع للمشروعات الوطنية    «الري»: بحث تعزيز التعاون بين مصر وبيرو في مجال المياه    محافظ المنيا: استقبال القمح مستمر.. وتوريد 238 ألف طن ل"التموين"    جهود قطاع أمن المنافذ بوزارة الداخلية خلال 24 ساعة فى مواجهة جرائم التهريب ومخالفات الإجراءات الجمركية    موناكو ينافس عملاق تركيا لضم عبدالمنعم من الأهلي    نهائي أبطال إفريقيا.. 3 لاعبين "ملوك الأسيست "في الأهلي والترجي "تعرف عليهم"    أبرزهم رامي جمال وعمرو عبدالعزيز..نجوم الفن يدعمون الفنان جلال الزكي بعد أزمته الأخيرة    موعد مباراة بوروسيا دورتموند أمام دارمشتات في الدوري الألماني والقنوات الناقلة    "الإسكان": غدا.. بدء تسليم أراضي بيت الوطن بالعبور    مسئولو التطوير المؤسسي ب"المجتمعات العمرانية" يزورون مدينة العلمين الجديدة (صور)    خبيرة فلك تبشر الأبراج الترابية والهوائية لهذا السبب    ما حكم الرقية بالقرآن الكريم؟.. دار الإفتاء تحسم الجدل: ينبغي الحذر من الدجالين    الفصائل الفلسطينية تعلن قتل 15 جنديا إسرائيليا فى حى التنور برفح جنوبى غزة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 18-5-2024    حادث عصام صاصا.. اعرف جواز دفع الدية في حالات القتل الخطأ من الناحية الشرعية    الأرصاد: طقس الغد شديد الحرارة نهارا معتدل ليلا على أغلب الأنحاء    قبل عيد الأضحى 2024.. تعرف على الشروط التي تصح بها الأضحية ووقتها الشرعي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تغريبة بني صابر
نشر في محيط يوم 16 - 06 - 2015

في رقبتي ديون كثيرة أتحين الفرصَ لسدادها، أشعر أن كل سعادة منحني إياها كتابٌ أو فيلم أو أي عمل إبداعي، هي دين أوفيه عندما أتحدث عن العمل وعوالمه مع صديق أو أكتب عنه -ولو تغريدة على تويتر أو تدوينة على الفيس بوك.
بعض الديون ثقيلة لشدة عطائها، تظل تلح على خاطري وتطالبني بالكتابة. وهو ما تفعله معي- تقريبا كلما هممت بكتابة مقالة - رواية (تغريبة بني صابر ) للروائي مختار سعد شحاتة. قبل أن أبدأ في تخفيف وطأة شعوري بالدين، علي أيضاً أن أتحلل من عقدة الذنب تجاه بعض الأمور العالقة، وذلك عبر البوح بها، فلا تعود شياطينها تمرح بين سطوري وأنا أكتب وتُخرج لي ألسنتها الصغيرة المدببة.
أولاً، مختار صديق شخصي، أعرفه عن قرب وتجمعني به وبأسرته صداقة طويلة تعود إلى تلك الفترة التي يصادق فيها الناسُ بعضهم البعض لأسباب لا تخامرها لا المصالح ولا التطلعات.
ثانياً - وهو أمر مهم جداً في رأيي- أن بعض الغيرة قد انتابتني وأنا أجد رواية مختار تستدرجني إلى عوالمها بمهارة شديدة، يكتب بوعي وبجهد لا يشبه الاستسهال الروائي الذي اعتدنا عليه، يبني عالماً ولا يكتفي بحكاية حدوتة، في عالمه تحمل الكائنات شهادات ميلاد يمكنك أن تراها ممهورة بتوقيع خالقها الجديد، يُعيد عليك القصص فتشعر كأنها ليست معادة إنما هي (براند) حديث سوف يحمل اسمه معه حتى لو استخدم المكونات نفسها. كنت أشعر كأنني (مستكتر) على مختار هذا الإنجاز، وهو شعورٌ - وإن بدا شريراً - إلا أنني عادة أنجح في أقلمة مشاعري الشريرة وأخرج منها إلى فضاء مجاور أكثر طيبة. وبمزيد من الاعتداد بالنفس؛ أقول إن غيرتي من رواية مختار تعني أنها نجحت في تجاوز مشاكل ذائقتي التي تنفر عادة من الكثير من الروايات المسطحة التي ابتلينا بها هذه الأيام، والتي يمكن - بالمناسبة- تصنيفها إلى ثلاثة أصناف: رواية تقف عند حدود تقديم قصة لطيفة (حدوتة) تقفز -كقارئ- بين سطورها الخفيفة لتعرف نهايتها فلا يبقى من سحرها في نفسك شيء ولا تومض في روحك منها فكرة. ورواية تنشغل عن القصة (الحدوتة) بالتشكيل اللغوي فتفقد معها متعة الحكي، وثالثة تنشغل عن هذه وتلك بسرد الذات الذي لا يصنع عالماً ولا يمتعك بحدوتة. فماذا فعلت (تغريبة بني صابر ) لكي تفلت من أسر هذا التصنيف الحدي القاسي للكتب التي تحمل اسم رواية هذه الأيام؟ ما فعله مختار سعد شحاته- بالتحديد- هو أنه اجتهد في تخليص عالم روايته من بين الحدود الثلاثة السابقة، بطريقة أخرى؛ سار بعجينته -بمهارة لافتة- بين العفاريت الثلاثة التي تتناوش كل عجينة يمضي بها صاحبها نحو مخبز الرواية لينضجها، من دون أن يترك لهذه العفاريت الفرصة في قضم الكثير من رغيفه. ربما نتحدث لاحقاً عما قضمته العفاريت، ولكنني الآن مشغول بما أفلت به من بين مخالبها.
القصة أم الرواية؟ فلأبدأ بتحديد ما أعنيه بالمصطلحات التي أستعملها، حتى تكون الكتابة بعد ذلك واضحة المقصد؛ في ظني أن القصة (الحدوتة)، هي مجموعة الأحداث التي يمكنك أن ترويها بأكثر من طريقة، وبذلك تكون (الرواية) هي الطريقة التي تستعملها لأداء هذه الحدوتة، لا يقف الأمر عند حدود التقنيات بل يشملها ليصل إلى العالم الذي تبنيه من أجلها، والزمن الروائي- ليس زمن وقوع الأحداث بل الكيفية التي (تفخخ) بها الحدوتة بكل مشتملاتها لكي تصنع زمناً خصوصياً يستدرج إليه القارئ فيشعر- كلما اضطر إلى مفارقته- كأنما كان داخل حلم وأفاق مشحوناً برغبة في العودة إليه، أو كأنما كان داخل بئر وخرج -فجأة - لسبب خارجي، تحرقه الرغبة في الدخول مرة أخرى مدفوعاً بالفضول والمتعة. هل فعل مختار سعد شحاتة ذلك؟ بلا أدنى شك، فعل؛ وإن كان تسبب أيضاً- في بعض الأحيان- بنفسه في حدوث هذا الانقطاع أو تلك المفارقة التي تجعلك غاضباً حتى تعود إلى التسرب مرة أخرى إلى داخل العمل، وهي واحدة من قضمات العفاريت. إذن - في ظني المتواضع- وتأسيساً على اجتهادي في التفريق السابق بين الأمرين، سر الصنعة عند مختار يكمن- ليس في القصة- ولكن في الرواية. فما هي القصة؟ محاولة تجريد القصة من الرواية سوف تقودنا ببساطة إلى شاب اسمه (نور)، أبوه من قرية (منية المهدي) المصرية عند بحيرة البرلس، وأمه سويدية، وُلد ونشأ في أحضان مدينة (كيرونا) في السويد. بعد وفاة والدته يعود (نور) إلى القرية المصرية في رحلة للبحث عن أبيه حسن مسعود صابر الذي اختفى، مستهدياً في رحلته بما خلفه له الأب نفسه من علامات تستحضرها الذاكرة. نقطة ومن أول الرواية. تأسيساً على ذلك، تدور الرواية في مصر- في قرية الأب وبعض مناطق الصحراء الغربية وصعيد مصر، وكذلك في السويد. وهو يذهب بنا من خلال تشابكات الشخصيات إلى جغرافيات أخرى في بلاد الأمازيغ في شمال مالي، وكلها جغرافيات مختارة- ليست عشوائية- تتشابه إلى حد ما في هامشيتها وبُعدها عن مراكز الأحداث، وهو أمر يمكن تأويله ضمن الكثير من الأمور التي يمكن تأويلها في (تغريبة بني صابر )، ولكن كتابتي هنا غير معنية بالتأويل ولكنها معنية بمحاولة التقاط أسباب متعتي الشخصية بالرواية. زمن الأحداث (رحلة البحث عن الأب) تحدث في المستقبل نسبة إلى زمننا الحالي – فهي تحدث في عام 2030 ما سمح للكاتب باستخدام بعض تقنيات التواصل المتخيلة التي تفوق ما نملكه اليوم- وما يملكه أهل قرية الرواية- من وسائل اتصال، في محاولة لبيان الفارق الكبير في مسارات الشعوب على منحنى التقدم والأخذ بأساليبه في إطار اللعب على ثنائيات مثل (الخرافة مقابل العلم، الأسطورة مقابل التاريخ، الإيمان مقابل الاقتناع، التقديس مقابل التقدير) وغيرها من ثنائيات يمكن رصدها على طول العمل من دون الوقوع في فخ المباشرة أو الوعظ.
ما أعنيه بالحديث عن دور الرواية في نقل القصة من مجرد تتابع لأحداث تقوم بها شخصيات ما في زمن ما، هو قدرة الروائي على خلق عالم تنتمي إليه الأحداث وتتحرك فيه الشخصيات بحرية من يتجول في عالمه الخاص ويمارس طقوس حياته الاعتيادية، لتمنحك الكتابة متعة لا يستطيع مقاومتها سوى القديسين: متعة التلصص؛ فتتحول من قارئ إلى متلصص على عوالم - ليست مجرد عوالم خصوصية تفقد متعتها بعد انكشاف تلك الخصوصية- إنما عوالم مغزولة لذاتها، وليس لك، مبنية على تقنية (الدهشة المؤجلة) إذا صحت العبارة - أو حتى لو لم تصح؛ إنها دهشة يبثها الروائي- بمقدار- ليؤسس لدهشة تليها... وهكذا فتظل ممعناً في فعل التلصص غير معني بتأويل أو تفلسف- وإن كانت القراءة لا تتوقف عن فعلهما طوال الوقت- ولكنه فعل غير معني بك فالرواية لا تستوقفك لتستعرض عليك ذلك أو حتى تخبرك به، فتقطع عليك لذتك من حيث لا تعني، فهي ليست مهتمة بغير صنع عالمها، والاستفادة من كل ذرة ذاكرة يمكن استدعاؤها لصياغة تفاصيل هذا العالم الأسطوري ونحت أشخاصه وجعلهم يتحركون- تحت عينيك المتلصصتين- بالعفوية نفسها التي يتحركون بها في خيال الروائي.. وبالتأكيد أكثر. يستدعي مختار سعد شحاتة إلى عالمه قصص صيادي البحيرة وحكاياتهم الخرافية عن العفاريت والجان الذين يسكنون بحيرتهم، يستدعي مواويلهم وأغاني (حديهم) التي تكتنز أحلامهم ومخاوفهم ورغباتهم المعلنة أو السرية، التي هي أحلام ومخاوف ورغبات كل البشر في تلك القرية وكل القرى والمدن على امتداد جغرافيا مصر، وربما جغرافيا العالم، لتكشف عن مدى هشاشة الكائن البشري النفسية في مقابل ما يدعيه من قسوة تفرضها عليه الحياة، بداية من شكلهم الخارجي وطريقة عيشهم وكيف يتحصن كل واحد أمام الآخرين وكيف تتحصن كل مجموعة أمام الأخرى داخل الفئة نفسها، وكيف تتحصن فئة الصيادين تجاه فئة الفلاحين في القرية نفسها وكيف يشيطن كل منهما الآخر ليبرر لنفسه قشرتها الزائفة التي يعتقد أنه من دونها يضيع. تستدعي الرواية آليات هؤلاء البشر البدائية في تكييف الواقع الصعب وفلسفته لينتج ذلك المزيج المعقد بين رؤية شفافة للدين تقترب من روح التصوف، وممارسات -على النقيض من تلك الشفافية- تتجلى في طقوس غرائبية وممارسات تدفعهم نحوها مخاوفهم ورغباتهم في الحياة فتخضعهم لكائنات غير مرئية وعوالم موازية تتحكم في عالمهم ومقدراتهم وتجعل عالمهم أكثر تعقيداً، والأهم من ذلك تبتعد بهم أو كما أرادت الرواية (تُغرّبهم) كثيراً عن أصلهم (النوراني) الذي تجسد في أبيهم (صابر) فتتجلى لنا معه (تغريبة بني صابر ) التي هي تغريبتنا المصرية الصميمة – على حد تأويلي- والبركة في تأويلكم. أما أنا فتكفيني متعتي بهذا العمل الجميل "تغريبة بني صابر" الذي لم تقضم منه العفاريت الكثير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.