يا أبطال برقة، وليوث طرابلس، وحماة الثغور، وذادة المعاقل والحصون، صبرا قليلا في ميدان الموت، فها هي نجمة النصر تلمع في آفاق السماء، فاستنيروا بنورها، واهتدوا بهديها حتى يفتح الله عليكم.
إن الله وعدكم النصر، ووعدتموه الصبر، فأنجزوا وعدكم ينجز لكم وعده.
إنكم لا تحاربون رجالا أشداء بل أشباحا تتراءى في ظلال الدبابات، وخيالات تلوذ بإكناف الأسوار والجدران، فاحملوا عليها حملة صادقة تطير بما بقى من ألبابها، فلايجدون لبنادقهم كفا ولا لأسيافهم ساعدا.
إنهم يطلبون الحياة، وأنتم تطلبون الموت، ويطلبون القوت، وتطلبون الشرف، ويطلبون غنيمة يملأون بها فراغ بطونهم، وتطلبون جنة عرضها السموات والأرض، فلا تجزعوا من لقائهم، فالموت لا يكون مر المذاق في أفواه المؤمنين.
إنكم تعتمدون على الله، وتثقون بعدله ورحمته، فتقدموا إلى الموت غير شاكين ولا مرتابين، فما كان الله ليخذلكم، ويكلكم الى أنفسكم، وأنتم من القوم الصادقين.
إن هذه القطرات من الدماء التي تسيل من أجسامكم ستستحيل غدا الى شهب نارية حمراء تهوى فوق رؤوس أعدائكم فتحرقهم.
وإن هذه الأنات المتصاعدة من صدوركم ليست إلا أنفاس الدماء صاعدة الى إله السماء أن يأخذ لكم بحقكم وينصركم على عدوكم، والله سميع الدعاء.
إن عدوكم قتل الشباب المسالم العزل ، لا لشيء إلا لأنهم رفضوا الظلم والقهر والإستعباد، وسلط مرتزقته يفسدون في الأرض وينشرون الرعب في كل مكان.
فأجلبوا عليهم بخيلكم ورجلكم وأصدقوا حملتكم عليهم، وجعجعوا بهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم، واطلبوهم بكل سبيل وفوق كل أرض وتحت كل سماء، وازعجوهم حتى عن طعامهم وشرابهم، ويقظتهم ومنامهم، فما أعذب الموت في سبيل تنغيص الظالمين.
أحفروا لأنفسكم بسيوفكم قبورا، فالقبر الذي يحفر بالسيف لا يكون حفرة من حفر النار.
لاتطلبوا المنزلة بين المنزلتين، ولا الواسطة بين الطرفين، ولا العيش الذي هو الموت اشبه منه بالحياة، بل اطلبوا إما الحياة أبدا، وإما الموت أبدا.
إن مسيلمة هذا العصر يريدكم أن تكونوا رعية كالغنم درا وطاعة، وكالكلاب تذللا وتملقا، وعليكم أن تكونوا كالخيل إن خُدمت خدمت، وإن ضُربت شرست.
وعليكم أن تكونوا كالصقور لا تلاعب ولا يستأثر عليها بالصيد كله، خلافا للكلاب التي لا فرق عندها أطعمت أم حرمت حتى من العظام. نعم؛ أيها الشعب الليبي الحر.
عليكم أن تعرفوا مقامكم: هل خُلقتكم خدما لهذا الطاغية، تطيعونه إن عدل أو جار، وخُلق هو ليحكمكم كيف يشاء بعدل واعتساف؟ أم أنتم أتيتم به ليخدمكم لا ليستخدمكم؟
إنه، لا سمح الله، إن ظهر عليكم سيريكم الويل أضعاف مضعفة، وسينظم في ثقوب آنافكم مقاود يقودكم بها الى مواقف الذل والهوان؛ كما تقاد الإبل المخشومة الى معاطنها.
فافتدوا أنفسكم من هذا المصير المهين بجولة تجولونها في سبيل الله ثم تموتون موت الجبان في حياته وحياة الشجاع في موته، فموتوا لتعيشوا، فوالله ما عاش ذليل ولا مات كريم.
إن هذه الدبابات الرابضة على أطراف مدنكم، والمدافع الفاغرة أفواهها اليكم والبنادق المسددة الى صدوركم ونحوركم، لا يمكن أن يتألف منها سور منيع يعترض سبيلكم في رحلتكم من هذ الدار الى تلك الدار؛ فسيروا في طريقكم الى آخرتكم، فإن الأعداء ان ملكوا عليكم طريق الحياة لا يملكون عليكم طريق الموت.
المستميت لا يموت، والمستقتل لا يقتل، ومن يهلك في الإدبار أكثر ممن يهلك في الإقدام، فإن كنتم لا بد تطلبون الحياة فانتزعوها من بين ماضغي الموت.
إن كُتّاب التاريخ قد علقوا أقلامهم بين أناملهم، ووضعوا صحائفهم بين أيديهم، وانتظروا ماذا تملون عليهم من حسنات أو سيئات.
فأملوا عليهم من أعمالكم ما يترك في نفوسهم مثل ذلك الأثر الذي تركته في نفوسكم تلك الصحائف البيضاء التي سجلها التاريخ لأولئك الأبطال العظام.
موتوا اليوم أعزاء قبل أن تموتوا غدا أذلاء.
موتوا قبل أن تطلبوا الموت فيعوزكم، وتنشدوه فيعجزكم.
موتوا اليوم شهداء في ساحة الحرب تكفنكم ثيابكم، وتغسلكم دماؤكم وتصلي عليكم ملائكة الرحمن قبل أن يسبق قضاء الله اليكم فيموت أحدكم فلا يجد بجانبه مسلما يصلي عليه صلاة الجنازة ثم يمشي وراء نعشه الى قبره حتى يودعه حفرته، ويخلي بينه وبين ربه.
إن الشيخين أبا بكر وعمر، والفارسين خالدا وعليا، والأسدين حمزه والزبير، والفاتحين سعدا وأبا عبيدة، والبطلين طارق بن زياد وعقبة بن نافع وجميع حماة الإسلام وذادته، من السابقين الأولين والمجاهدين الصابرين.
يشرفون عليكم اليوم من علياء السماء، لينظروا ماذا تصنعون بميراثهم الذي تركوه في أيديكم، فامضوا لسبيلكم، واهتكوا بأسيافكم حجاب الموت القائم بينكم وبينهم، وقولوا لهم إنا بكم لاحقون، وإنا على آثاركم لمهتدون.
إن هذا اليوم له ما بعده، فلا تسلموا أعناقكم الى أعدائكم، فإنكم إن فعلتم ستصلب الحرية وتقطع أيديها وأرجلها من خلاف. ................................................................ *ما أشبه اليوم بالبارحة، أصل المقال رسالة من الأديب مصطفى المنفلوطي يحث فيها المجاهدين الليبيين على قتال الطليان إبان غزو ايطاليا لليبيا سنة 1911 مع بعض التصرف.