انقلبت الأوضاع بمدينة عنابة (600 كلم شرقي الجزائر العاصمة)، رأسا على عقب، لتتّحول خلال السّنوات الخمسة الأخيرة، من واحدة من المدن السّاحلية السياحية الجذابة والأولى وطنيا، إلى واحدة من المدن الأكثر إجراما، بحسب إحصائية لمصلحة الأمن الجزائري. وساهم هذا الأمر في تراجع توافد السياح من داخل الجزائر وخارجها لزيارة المعالم التاريخية والأثرية للمنطقة، أو للتمتع بمناظرها الطبيعية وإمكانياتها السياحية الكبيرة، جراء تعرض الكثير من الوافدين على المدينة للاعتداءات والسرقة، ووقوع عشرات العائلات ضحايا لعصابات الإجرام المنظمة التي باتت تحكم سيطرتها على شوارع وأحياء المدينة. وتتوفر مدينة عنابة (أو بونة سابقا)، على شريط ساحلي بحري رملي يمتد على مسافة 14 كلم، ما جعلها تلقب ب"عروس البحر الأبيض المتوسط" ، فضلا على أنّها تضم مواقع تاريخية وأثرية هامة، على غرار كنيسة القديس أوغستين الواقعة بأعلي هضبة بوخضرة بمدخل المدينة، ومسجد أبو مروان العتيق، والمدينة الأثرية الرومانية "هيبون"، وشواطئ ومناطق طبيعية ساحرة، في شكل شاطئ واد بقرات بسرايدي، وروائع أعالي جبال بوزيزي وعين بربر بسرايدي، وشاطئ الرمال الذهبية ببلدية شطايبي غربي المدينة، والشريط الساحلي الصخري الممتد من منطقة بلفودار إلى غاية قمة "لالة بونة". كما تتميز عنابة بساحات عمومية تضرب في عبق التاريخ والأصالة على غرار ساحة الثورة التي تتوسط قلب المدينة، وساحة "19 جوان (يونيو/حزيران)" وغيرها، كما تتربع على بحيرة طبيعية مصنفة عالميا ضمن اتفاقية رامسار لحماية المناطق الرطبة في العالم ويتعلق الأمر "ببحيرة فتزارة" التّي تمتد على مساحة إجمالية قدرها نحو 2000 هكتار، وتعيش بها أنواع مختلفة من الحيوانات والطيور النادرة. واتفاقية رامسار هي معاهدة دولية للحفاظ والاستخدام المستدام للمناطق الرطبة من أجل وقف الزيادة التدريجية لفقدان الأراضي الرطبة في الحاضر والمستقبل وتدارك المهام الإيكولوجية الأساسية للأراضي الرطبة وتنميت دورها الاقتصادي، الثقافي، العلمي وقيمتها الترفيهية. وتحمل الاتفاقية اسم مدينة رامسار في إيران، ووقع عليها 159 دولة، حتى عام 2010. كلّ هذه المؤهلات وأخرى جعلت من مدينة عنابة، قبلة سياحية أولى بامتياز خلال السنوات الماضية بالجزائر، لكن عدة معطيات وظروف تغيرت بهذه المدينة المضيافة المنفتحة على غيرها، جعلت منها الأولى دوما ولكن في مجال آخر، إذ باتت تحتل سنويا المرتبة الأولى وطنيا في الجزائر في عدد الجرائم المسّجلة بمختلف أنواعها وأشكالها، وعلى رأسها جرائم القتل والاعتداءات والسرقة والضرب والجرح العمدي واستعمال الأسلحة البيضاء والاختطاف والاغتصاب وجرائم التزوير وتهريب البشر وسرقة السيارات. وجعلت تلك الجرائم المدينة تتنازل عن المركز الأول وطنيا في استقطاب السياح والمصطافين في موسم الصيف لصالح محافظتي جيجل وسكيكدة (شرق) المجاورتين، على الرّغم من خروجهما "للتوّ" من جحيم وسيطرة الجماعات الإرهابية، التي كانت تتخذ من جبال محافظة جيجل مقرا رئيسيا للإمارة السادسة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. وقال مصدر أمني مسؤول لوكالة الأناضول إن "الخمسة أشهر الأولى من العام الجاري 2014 أحصت فيه الأجهزة الأمنية بعنابة، سبعة جرائم قتل، من بينها جريمتان عائليتان (شاب قطّع أوصال والده وآخر حطّم رأس عمته بمطرقة حديدية)". وأضاف المصدر أنه "في العام الماضي بلغ عداد جرائم القتل بالمدينة 19 جريمة قتل مروّعة، وقبل ذلك خلال عام 2012 سجلت المحافظة 24 جريمة قتل، فيما تمكنت عناصر الشرطة من توقيف ما يزيد عن 270 شابا بتهم حمل أسلحة بيضاء (آلات حادة) محظورة، وتفكيك ورش لصناعة هذه الأسلحة، فضلا عن مداهمة أوكار خاصة بصناعة القنابل المسيلة للدموع، وزجاجات المولوتوف (القنابل الحارقة)". وبالعودة لحصيلة الخمسة أشهر الأولى من العام الجاري، فان جهاز الشرطة لوحده أحصى ، بحسب محمد يزيد بو بكري رئيس مصلحة الشرطة القضائية بمديرية أمن الولاية خلال مؤتمر صحفي الثلاثاء الماضي:" 1117 قضية متعلقة بمختلف الجرائم، منها 21 قضية متعلقة بسرقة السيارات، و220 قضية لها علاقة بالسرقة بالخطف والتهديد بالسلاح الأبيض". وأوضح بو بكري، أنه تم خلال نفس الفترة توقيف قرابة المائة شخص في قضايا لها علاقة بالاتجار بالمخدرات والحبوب المهلوسة (نوع من الحبوب المخدرة)، حيث تم ضبط نحو 100 ألف قرص مهلوس، و5 كيلوجرامات من مخدر الكوكايين، فضلا عن قضايا أخرى متعلقة بالتزوير والجرائم الالكترونية". من جانبه، قال مصدر طبي بمستشفى ابن رشد الجامعي بمدينة عنابة للأناضول إنّ "المستشفى أحصت مالا يقل عن 97 ضحية تعرضوا لاعتداءات باستعمال الأسلحة البيضاء منهم أربع حالات انتهت بالوفاة خلال الخمسة أشهر المنقضية من عمر السنة الجارية". وتتركز غالبية هذه الجرائم الخطيرة والمروعة، في شوارع وأحياء قلب المدينة، حيث تنشط عصابات منظمة، مختصة في النشل والسرقات مدججة بأسلحة بيضاء خطيرة للغاية، تتمثل في سيوف تسمى شعبيا (بسيوف الساموراي) يتم صناعتها في ورش خاصة بمناطق معزولة وبعيدة عن أعين رقابة الأجهزة الأمنية وتروج بمبالغ مالية تتراوح ما بين ال5000 وال10000 دينار جزائري (ما بين 50 و100 دولار أمريكي)، بحسب سكان محليون. ويستهدف المجرمون، السياح الأجانب الذين يقصدون المواقع الأثرية والشواطئ الرائعة بالمدينة، ما ساهم في تراجع أعداد السّياح وخاصة الأوروبيين منهم إلى النصف تقريبا خلال السنوات الخمس الأخيرة، بحسب إحصائيات رسمية. كما يعتبر رجال المال والأعمال وعائلاتهم وكذا طلبة الجامعات من بين الضحايا المستهدفين لعصابات السّرقة والنشل، وهي الحوادث التّي تنتهي في بعض الحالات بمآسي مروعة في شكل التصفية الجسدية. وتتضاعف جرائم القتل بمدينة عنابة خلال موسم الصيف، بشكل مريب وغريب للغاية، بسبب الانتشار الكبير لتروّيج المخدرات والخمور بمختلف أنواعها، وظهور الكثير من الملاهي الليلية غير المقننة بالشواطئ والسواحل والأحياء المعزولة (فضلا عن وجود 60 ملهى ليلي ينشط بطريقة نظامية)، بحسب مصالح الأمن. ومنذ أسابيع، استيقظ سكان الشريط الساحلي على جريمة قتل مروعة راح ضحيتها نادل بملهى ليلي على يد أحد الزبائن، ما دفع السّكان إلى الخروج في احتجاجات قاموا من خلالها بإحراق الملهى وتخرّيب مستشفى المدينة وتحطّيم سيارات الشّرطة تعبيرا منهم عن استيائهم من التنامي الرهيب للملاهي الليلية والتزايد المخيف لجرائم القتل بها. من جانبه، اعتبر رشيد حمزاوي أستاذ علم الاجتماع بجامعة عنابة، أنّه من بين أهمّ الأسباب التّي ساهمت في تنامي الجريمة بهذا الشكل المرعب بالمدينة هي البطالة ". واشار في تصريحات للأناضول إلى أن نسبة البطالة تتجاوز، حسب إحصائيات غير رسمية، نسبة 35 % في أوساط الشباب، فضلا عن تنامي الأحياء العشوائية بسبب التوافد الكبير للسّكان من مختلف الولايات المجاورة خلال سنوات الإرهاب، وتزايد الهجرة الداخلية ما ولّد المزيد من أحياء الصفيح (أحياء بها مساكن من الصفيح) التي تفتقد لظروف الحياة البشرية، جراء انعدام شبكات الماء الشروب والصرف الصحي والإنارة العمومية والكهرباء بها". وقال حمزاوي إن "إحساس الشباب بالتحقير والتهميش من قبل السلطات، في ظل غياب الرعاية وانعدام المتابعة، وكذا تداخل عدد كبير من سكان مختلف الولايات فيما بين بعضهم البعض بالأحياء الفوضوية المنتشرة بكثرة بعاصمة مدينة عنابة وبلديات البوني وسيدي عمار والحجار، شجّع على ظهور النّعرات الجهوية والقبلية وأدّى إلى خلق ما يسمّى بالرغبة في السّيطرة والزّعامة بين الشباب وساهمت كل هذه الظروف في تنامي الجريمة بشكل واسع بالمدينة". وأضاف أن هذا الأمر يصعّب من مهام الأجهزة الأمنية، مشيرا إلى أن "قضية الانتشار الكبير للملاهي الليلية بصورة عشوائية بالمدينة وعدم مراقبة نشاط مافيا تهريب الخمور والمخدرات الذين يغرقون المدينة بالأطنان من هذه السموم التي تروج بشكل واسع بين شباب الأحياء الشعبية والبطالين". اللّافت في الأمر، أنّ مدينة عنابة، تحولت إلى عاصمة فعلية للجريمة بمختلف أنواعها، ففضلا عما سبق، فقد باتت المنطقة ملاذا خصبا للعصابات الدولية المختصة في تهريب البشر من سواحل المدينة باتجاه ايطاليا بالتنسيق مع شبكات من داخل المدينة، إضافة إلى تزايد نشاط اختطاف القصّر واستدراجهن وحالات الاغتصاب الجماعي للتلميذات والطالبات الجامعيات خصوصا، بحسب سكان. كما تمكنت السلطات الأمنية من تفكيك عصابات وطنية ودولية ناشطة في مجال التهرّيب الدولي للمخدرات والمرجان والأسلحة النارية تتخذ من مدينة عنابة مقرا رئيسيا لها، استنادا للمعطيات السابقة وكذا لقرب المنطقة من الحدود التونسية الجزائرية واللّيبية، إذ أحبطت عناصر الدرك منذ أشهر محاولة إدخال 40 سلاح آلي من طراز كلاشينكوف في النقطة الحدودية عين لحدادة بسوق أهراس بين الجزائر وتونس، عندما كان أحد مهرّبي المخدرات وينحدر من مدينة عنابة بصدد مبادلتها بكمية من القنب الهندي مع أفراد عصابة دولية مكونة من تونسيين وليبيين.