ثلاث بحيرات عظمي جديدة! د. عبد المنعم سعيد الأخبار الطيبة في بلادنا شحيحة, وحتي عندما تكون متاحة يكون الميل دائما في اتجاه عدم التصديق, وإذا صدقنا فإن ذلك يكون مغلفا بانتظار مرتجف لما سوف يأتي من أنباء مزعجة فندعو المولي عز وجل أن يجعل القضاء لطيفا. وفي العموم فإن الأجهزة الإعلامية العامة والخاصة لديها ميل غير محمود للتباري في إذاعة ما يكفي لغم النفس, وإذا خرج البعض عن النص المحزن فإن الاتهام جاهز بالترويج لما هو مفرح, وهي تهمة ظاهرهاالموالسة مع الحكومة لتبرير ما تأتي به من قرارات فاجعة, ولكن باطنها هو التشاؤم حول مستقبل البلاد. سبب هذه المقدمة هو أنني قبل أسبوعين كنت في طريقي للسفر خارج البلاد للمشاركة في ندوة وورشة عمل في جامعتين بمدينة بوسطون الأمريكية عندما شرفني بمكتبي بالأهرام شخصية لم أكن قد تعرفت بها من قبل هي الدكتور عبد المنعم حنفي, وحسب ما جاء في بطاقته التي قدمها فهو حاصل علي الدكتوراه في الجغرافيا والتجمعات الإنسانية, أما المذكرة التي حملها فقد أشارت إلي أنه يعمل أستاذا غير متفرغ بجامعة قناة السويس وعمل من قبل رئيسا لمركز الداخلة بمحافظة الوادي الجديد. ساعتها لم تكن الأخبار القومية والوطنية علي ما يرام, فقد كان مؤتمر القمة العربي علي وشك الانعقاد دون حضور قيادي لعدد غير قليل من الدول العربية, وكانت الأسباب معروفة ومحزنة. وفي الداخل كانت أزمة الخبز قد استحكمت مما استدعي تدخل القوات المسلحة والشرطة في شهادة عجز لوزارات وأجهزة مدنية كثيرة, وحدث ذلك وسط شكوك متصاعدة حول برنامج الإصلاح الاقتصادي وقد وصلت معدلات التضخم إلي مستويات مرهقة للغالبية. ولكن ما جاء به الرجل كان من ناحية جديدا كل الجدة علي الأقل بالنسبة لي, ومفرحا أيضا لأنه حمل صورا تقول بوضوح إن الجغرافيا المصرية قد تغيرت بوجود ثلاث بحيرات عظمي جديدة في صحراء مصر الغربية. كان مصدر الصور هو شبكة جوجول الأر ض العالمية,وحسب ما جاء في المذكرة المصاحبة للصور والتي أعدها الدكتور عبد المنعم حنفي أنها تستند إلي البيانات التي أتاحها القمر الصناعي الخاص بوكالة الفضاء الأوروبية عام2007 والصور الجوية التي أتاحتها الهيئة القومية للاستشعار عن بعد وعلوم الفضاء. وهذه الصور كلها كانت تشير بوضوح إلي ثلاثة تجمعات مائية كبيرة مع تجمعين صغيرين في المنطقة الواقعة شمال غرب بحيرة ناصر, حيث يبدو أنها تجمعت نتيجة التسرب تحت سطح الأرض بعد امتلاء البحيرة في عملية توزيع جديدة وطبيعية لمياه النهر الخالد في اتجاه منطقة تطالبنا بالتنمية والنماء وتوسيع حدود مصر البشرية بعيدا عن الوادي الضيق المختنق بالبشر. البحيرة الأولي كما جاءت في الصور الفضائية تأخذ شكل أوزة, وحسب ما جاء في المذكرة التي أعدها صاحبنا فإن طولها من الشرق إلي الغرب نحو25 كيلو مترا, وعرضها من الشمال إلي الجنوب نحو12 كيلو متر, وتقدر مساحتها الكلية بنحو300 كيلو متر مربع. وتقع البحيرة علي بعد نحو58 كيلو مترإلي الشمال الغربي من خور توشكي ويقدر حجم المياه المتاحة بها نحو18 مليار متر مكعب. وعلي بعد25 كيلو مترا وقعت البحيرة الثانية علي شكل مستطيل طوله من الشرق إلي الغرب نحو45 كيلو مترا وعرضه من الشمال إلي الجنوب4 كيلو مترات, بإجمالي مساحة نحو180 كيلو مترا مربعا تحتوي علي11 مليار متر مكعب من المياه. ويبدو أن المياه قد غاصت مرة أخري تحت سطح الأرض في اتجاه الشمال الغربي لتظهر علي سطح الأرض مرة أخري لتكون البحيرة الثالثة حسب ما جاء في مذكرة الدكتور عبد المنعم حنفي. وتأخذ هذه البحيرة شكل الحرفT باللغة الإنجليزية بطول نحو30 كيلو مترا من الشرق إلي الغرب وبعرض نحو15 كيلو مترا في المتوسط أي بإجمالي مساحة حوالي450 كيلو مترا مربعا تحتوي علي27 مليار متر مكعب من المياه أو ما يعادل تقريبا حجم المياه في البحيرتين السابقتين. وتعتبر هذه البحيرة أقرب البحيرات الثلاث إلي العمران بالوادي الجديد حيث لا تتعدي المسافة بينها وبين قري درب الأربعين نحو115 كيلو مترا, ونحو135 كيلو مترا من واحة باريس. هذه المعلومات مع الصور المصاحبة لها كانت جديدة تماما بالنسبة لي, وأظن أنها كذلك بالنسبة للغالبية الساحقة من المصريين, وعلي أي الأحوال فإذا كانت هذه المعلومات كما هو متوقع متاحة ومعروفة للعاملين في وزارة الري وأجهزة التنمية في محافظة الوادي الجديد والوزارات المصرية المعنية, فإنه من المفيد أن تكون منشورة علي نطاق واسع. ومن الطبيعي أن تكون هناك أسئلة مثارة عن هذه البحيرات وعما إذا كانت دائمة أم أنها ارتبطت فقط بوجود فيضان مرتفع, وكذلك عما إذا كانت تمثل مصدرا مغذيا جديدا للمياه الجوفية في منطقة الوادي الجديد كلها,وأخيرا عما إذا كانت تعطي فرصة جديدة للتنمية في هذه المنطقة الجدباء من أرض الوطن؟ والأسئلة بعد ذلك من الناحية العلمية والجيولوجية كثيرة حول أسباب حركة المياه الجوفية وعما إذا كانت تعيد بعث مجري نهر قديم كان موجودا في عصور جيولوجية سحيقة ؟ هذه الأسئلة كلها توجد إجابات عليها من قبل الدكتور عبد المنعم حنفي في مذكرته التي أعطاها لي وكذلك إلي العديد من المسئولين حيث يري أن هذه البحيرات الثلاث جاءت بمثابة تصريف طبيعي لفائض النهر بعد أن تقلصت نسبيا سعة تخزين بحيرة ناصر من162 مليار متر مكعب من المياه إلي156 مليار متر مكعب بسبب تراكم الطمي في قاع البحيرة بعد خمسين عاما من إنشاء السد العالي. وتشكل البحيرات الثلاث نحو1000 كيلو متر مربع من المسطحات المائية, أو ما يقدر بقدر17% من مساحة بحيرة ناصر أوما يماثل مساحة هونج كونج وما يزيد علي مساحة دولة سنغافورة البالغة640 كيلو مترا مربعا فقط. وهذه المساحة تكفي وزيادة للعديد من الأنشطة التنموية التي تبدأ بصيد الأسماك ولا تنتهي بالزراعة. ووفقا لمذكرة الدكتور عبد المنعم حنفي فإن البحيرة الثالثة لديها إمكانيات كبيرة من حيث القابلية للاستغلال الزراعي حيث إن منسوبها يساعد علي الري دون الحاجة إلي رفع المياه من البحيرة وتتيح نحو50 ألف فدان قابلة للزراعة مع إمكان وصلها مع مناطق وأسواق معمورة.. وحتي يتم ذلك فإنه يمكن استغلال منطقة البحيرات باعتبارها ظاهرة جيولوجية فريدة تحدث في الفترة الزمنية المعاصرة وكمحمية طبيعية لا تقل أهمية عن محمية الصحراء البيضاء بواحة الفرافرة, ولكونها تشكل مناظر طبيعية خلابة مع انتشار الطيور البرية حول البحيرات. وبهذه الطريقة فإنها تكون مجالا واسعا لسياحة السفاري والسياحة البيئية في عمومها. وإلي هنا انتهت المذكرة التي أعدها صاحبنا والتي فيها من الأفكار أكثر مما هو معروض, ولكن القصة كلها تنبهنا إلي ما هو أكبر من البحيرات الثلاث وهو أن مساحة مصر أكبر بكثير مما نعرف. وبشكل من الأشكال فإن فلسفة الوادي الضيق في دولة تبلغ مساحتها مليون كيلو متر مربع وتنتشر علي2500 كيلو متر من السواحل والشطآن قد خلقت لدينا ثقافة من نوع خاص تقوم علي التزاحم وضيق الأفق والتنازع علي أمتار بينما البلدان واسعة وممتدة. وقد كان ذلك مقبولا ومتصورا عندما وجد المصريون أنفسهم في حضن نهر النيل بينما الصحراء والرمال الملتهبة مترامية إلي ما وراء الشمس حيث لا يوجد إلا الجدب والجفاف. ولكن الزمن تغير, ولم تعد هناك صحراء في العالم غير قابلة للقهر والتوسع والتمدد العمراني والانساني, ولم تعد هناك مياة مالحة في الدنيا عصية علي التنقية والاستخدام لأغراض شتي. ولكن ربما كانت مشكلتنا الأزلية هي أننا لا نتصور تنمية أو اقتحاما للصحراء أو انتقالا من مكان إلي مكان دون تحرك الحكومة المشغولة والمعنية بمئات الأمور التي تبدأ من أول توزيع تأشيرات الحج وحتي توزيع غاز البوتاجاز وأرغفة الخبز ومناكفة الصحفين الذين يناكفونها في كل ساعة. وما حدث في العالم كله أن الاكتشافات الجديدة, والأدوية الجديدة, جري تنميتها عندما فتح المجال للمبادرات الخاصة, ورأس المال العالمي والمحلي, لكي تستثمر فيما لم يتم استثماره من قبل. وفي خلال الخمسينيات حدثتنا الحكومة عن مشروع مديرية التحرير في الصحراء الغربية وبعد أن غنت له عقدين كاملين قامت بمشروع الصالحية في الصحراء الشرقية هذه المرة وغنت له مرة أخري. وكان هذا وذاك قطرة في بحر, بينما تحرك القطاع الخاص وزاد رقعة مصر الزراعية بما هو أكثر من مليونين من الأفدنة في صحراوات مصر كلها. فإذا كان ما جاء أعلاه بصدد البحيرات الثلاث صادقا, فلماذا لا تفتح الحكومة الأبواب لاستغلال منطقة جديدة بنفس الطريقة التي أشرنا لها من قبل حول استغلال إمكانيات سيناء والسواحل المصرية الغنية والتي تحتاج جهد المصريين وعقولهم وأموالهم. فالمسألة لا تمثل نوعا من المنافسة بين مناطق متعددة إلا في حالة واحدة فقط عندما تكون الحكومة هي مصدر وأساس التنمية فساعتها يصبح علي جميع المصريين الانتظار حتي نهاية التاريخ ؟! عن صحيفة الاهرام المصرية 7/4/2008