عنوان الحقيقة في قضية إبراهيم عيسي د. سعد الدين إبراهيم دأبنا في مصر علي ترديد أقوال مأثورة، دون توقف دوري لإعادة فحصها، والتأكد من درجة صدقيتها. ومن تلك الأقوال في التراث القانوني المصري "أن حُكم المحكمة هو عنوان الحقيقة". ولا بد أن هذا القول المأثور كان قد صدر في العصر الليبرالي المصري الحديث، الذي كان القضاء المصري فيه مستقلاً، تتوّجه محكمة عليا واحدة، هي "محكمة النقض والإبرام"، التي تأسست عام 1923، مُكملة للدستور، الذي صدر في نفس العام. وكما لم تشهد مصر، منذ ذلك الحين دستوراً في شموخ دستور 1923 علي كثرة ما رأت من دساتير، فكذلك لم تشهد مصر منذ ذلك الحين قضاءً بنفس درجة الاستقلال التي كان عليها في ذلك العصر الليبرالي المجيد. ولعل جهاد "نادي القضاة" في مصر، خلال العقود الخمسة الماضية لاستعادة هذه الاستقلالية، هو أبلغ دليل علي ما لحق بالقضاء من انتهاك وامتهان. فقد تغوّلت عليه السلطة التنفيذية. وفي داخل هذه الأخيرة، تغوّلت مؤسسة الرئاسةî فأصبحت في الواقع تهيمن علي كل السلطات. إن هذه الخلاصة ليست استنتاجاً لهذا الكاتب، ولا هي اجتهاداً منه. ولكنها عبارات مقتبسة من حكم شهير لمحكمة النقض، صدر في 18/3/2003، برئاسة المستشار فتحي خليفة، رئيس محكمة النقض وقتها، ومعه ثمانية مستشارين آخرين، من أقدم نواب نفس المحكمة، في قضية مركز ابن خلدون. إن دافع الإشارة إلي هذا الحكم الشهير في قضية شهيرة، سأعود إليها لاحقاً، هو صدور حكم من أحد محاكم الجنح، مؤخراً، بحبس الصحفي المصري اللامع، إبراهيم عيسي، رئيس تحرير جريدة الدستور القاهرية، لمدة ستة شهور، بإدانته في تهمة نشر أخبار عن "صحة رئيس جمهورية مصر العربية، كان من شأنها الإضرار أو التهديد بإضرار الاقتصاد المصري". ولقراء هذا المقال من خارج مصر، لا بد من التذكير بالسياق وخلفية نشر صحيفة الدستور لخبر عن "إشاعات انتشرت فجأة في الشارع المصري، عن مرض الرئيس حسني مبارك"، في مثل هذا الوقت من عام 2007. والسبب في انتشار الإشاعة وقتها، هو انقطاع صحف الدولة الرسمية (الأهرام والأخبار والجمهورية وروزاليوسف) عن نشر صور الرئيس وأخباره لعدة أيام متوالية. وهي نفس الصحف التي تعودت علي نشر أخبار الرئيس وصوره يومياً، خلال الست وعشرين سنة السابقة أي ما يقرب من عشرة آلاف يوم! وكل ما فعلته صحيفة الدستور، وتبعتها صحف مستقلة أخري، هي أنها تساءلت عن صحة ما يشاع وقتها بين الناس في مصر المحروسة، وطالبت الصحيفة المتحدث الرسمي برئاسة الجمهورية، أو وزير الصحة، بإصدار بيان عن "صحة الرئيس"، يتبين منه الخيط الأبيض من الخيط الأسود، لتبديد الإشاعة، أو تأكيد الخبر. وفي أي بلد متحضر، يحرص كبار المسؤولين علي إصدار مثل هذه البيانات عن حالتهم الصحية، وذمتهم المالية، دورياً فهم يعتبرون ذلك حقاً مشروعاً للرأي العام في بلدانهم. وبالتالي فهي مسؤوليتهم في إعلام الناس. ويبدو أن إبراهيم عيسي كان "يظن"، أو لعله كان "يتمني" أن تكون مصر بلداً متحضراً مثل بقية البلدان، التي يحرص مسؤولوها علي احترام هذا التقليد. وإن كان لإبراهيم عيسي من خطأ في هذا الشأن، فهو ذلك "الظن" (وبعض الظن إثم)، أو هذا "التمني"، (وبعض التمني أحلام يقظة). ولعل القاضي الذي أدان إبراهيم عيسي، وحكم بسجنه ستة شهور مع الشغل والغرامة، أراد علي الطريقة الصينية الشمولية، أن يُصلح تفكير إبراهيم عيسي. والطريقة الصينية، والتي تعرف في أدبيات السجون باسم "إصلاح الفكر" Thought Reform ، هي جعل الشخص المراد إصلاح فكره، يردد نفس العبارة عن خطئه وذنبه مئات المرات يومياً. ولا يحصل علي مأكل، أو مشرب، أو نوم، إلا بانصياعه، وترديده بأنه كان مخطئا، في هذا أو ذاك. وطبعاً في حالة إبراهيم عيسي ستكون العبارة "كنت أظن"، أو "كنت أتمني أن مصر بلد متحضر، مسؤولوه بشر، يحيون، ويمرضون، ويموتون". وقد استوحي الصينيون هذه الطريقة في "التعذيب" أو "إصلاح الفكر" من مصدرين، أحدهما صيني قديم، والثاني، أدبي حديث. أما المصدر الصيني التقليدي فهو التعذيب بالتنقيط المائي حيث يتم تثبيت أو تقييد من يراد تعذيبه أو إصلاح فكره، في نفس المكان، وإسقاط "نقطة ماء" علي رأسه من ارتفاع مترين أو ثلاثة، تباعاً، لساعات أو أيام. ولا يتوقف هذا التنقيط، إلا بعد التأكد من إصلاح فكر السجين، أو اعتراف المتهم "بجرائمه"! ومن يتصور أن "نقطة ماء" تسقط علي الرأس، لا ضرر منها ولا ضرار، فهو واهم. حيث إنها من أشد وسائل التعذيب قسوة. ورغم أنه لا ينتج عنها إسالة دماء، أو تكسير ضلوع، أو خلع أظافر، أو صدمات كهربائية. إلا أنها يمكن أن تصيب من يتعرض لها بالجنون. أما المصدر الأدبي الحديث للطريقة الصينية في إصلاح الفكر، فهي مستوحاة من رواية "جورج أرويل" George Orwell الشهيرة: "1984"، والتي يحكي فيها هذا الكاتب الإنجليزي قصة مجتمع شمولي، يكون الرئيس، أو الزعيم، أو الأخ الأكبر Big Brother ، حاضراً، رقيباً، وحسيباً، مع كل مواطن، كل الوقت، يحصي عليه ريحاته وجيئاته، ومشاعره وأفكاره، لتنبيهه أولاً بأول عن أي انحراف عن الصراط المستقيم، الذي هو الفكر السليم والشعور القويم، كما يقرره "الأخ الأكبر"، والذي هو تجسيم للأيديولوجية وللحزب وللسلطة، وهو الذي يمنح ويمنع، ويُبقي ويُميت. وبعد فترة من هذه الممارسة، يتحول كل إنسان إلي رقيب ذاتي، وحسيب ذاتي. وكذلك يصبح رقيباً وحسيباً علي الآخرين من حوله. أي يتحول كل إنسان إلي "أخ أكبر" Big Brother ، ومخبر. وهذا هو ما يطلق عليه علماء النفس الاجتماعي مصطلح "غسيل المخ" Brain Washing. لأن ضحاياه يصدقون ما يرددون آلياً. كتب جورج أرويل هذه الرواية عام 1948، بعد زيارة للاتحاد السوفييتي، شاهد فيها بنفسه، وسمع عما يحدث للناس في ظل شيوعية جوزيف ستالين. ورغم أنه كان اشتراكياً مثالياً معظم سنوات حياته، إلا أن ما رآه من مسخ وخسف وطمس لنفوس البشر باسم "الطوباوية الماركسية"، و"مجتمع العدالة والمساواة"، أرّق هذا الكاتب المرهف، التي كانت "الحرية" بالنسبة له أغلي القيم الإنسانية علي الإطلاق. وتصور أرويل أن انتصار الستالينية خلال العقود الثلاثة التالية، أي مع عام 1984، يمكن أن يمسخ الفرد والمجتمع والإنسانية إلي مخلوقات وكيانات ميكانيكية، لا حول لها ولا طعم ولا شخصية، ولا إرادة. ولكن لحسن حظ البشرية أنه قبل اكتمال العقد الرابع علي رواية جورج أرويل، كان الاتحاد السوفييتي نفسه في خبر "كان". ومع ذلك فإن مجموعة أخري من بلدان العالم الثالث من كوريا الشمالية، إلي زيمبابوي، إلي كوبا، إلي سوريا واليمن وليبيا، إلي مصر المحروسة، قد اُبتليت "بإخوة كبار" من النوع الذي حذرنا منه جورج أرويل نسيت أن أذكر أن "الأخ الكبير" في 1984 لا يمرض! ولا يموت! ويبدو أن إبراهيم عيسي قد فاته أن في مصر "أخ كبير"، لا يمرض. بل إن إبراهيم عيسي توهم منذ عدة سنوات أن هذا "الأخ الكبير" يمكن أن يموت، فكتب رواية بهذا العنوان، وهي "موت الرجل الكبير". ولكن لحسن حظ المصريين فإن العين الساهرة "للأخ الكبير" صادرت الرواية، وبذلك وأدت الفتنة في مهدها عملاً بقول مأثور آخر، "نرضي بحاكم غشوم، خوفاً من فتنة قد تدوم". لقد صادر الأخ الكبير رواية "موت الرجل الكبير" منذ عدة سنوات. وها هو الأخ الكبير، يحكم عليه الآن بمصادرة حريته، بسبب تشككه في "صحة الرجل الكبير". فهل ما زال صحيحاً أن "الحكم هو عنوان الحقيقة؟"، رغم ما قالته محكمة النقض منذ خمس سنوات في قضية رأي مماثلة، كانت محاكم أخري سابقة قد حكمت بسجن صاحب هذا الرأي الحر، منذ ثماني سنوات. والسؤال: ألا يغير البشر عناوينهم؟، فهل يا تري تغيّر الحقيقة أيضاً عنوانها؟، وخاصة حينما يتقمص "الأخ الكبير" شخص قاض صغير"؟. إن الله وحده أعلم بالإجابة. عن صحيفة الراية القطرية 5/4/2008