هل ما زالت أميركا تسعى إلى إقامة شرق أوسط جديد؟ د. شاكر النابلسي عندما طرحت أميركا مشروع «الشرق الأوسط الكبير» عام 2004 ، قامت الدنيا في العالم العربي ولم تقعد، دون أن نقرأ ونعلم ونفهم لماذا نرفض أو نقبل مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، مما أدهش بعض المسؤولين في العالم العربي. هل المشروع عملية قيصرية فاشلة؟ كذلك تكرر الحال الآن عندما تفوّهت - مجرد تفوّه - وزيرة الخارجية الأميركية بمشروع «الشرق الأوسط الجديد»، فانبرت الأقلام العربية التي لم تقرأ ، وإن قرأت لم تفهم، بالهجوم على هذا المشروع في اليوم التالي مباشرة، وقبل أن نسمع من وزيرة الخارجية أي بيان، أو توضيح لهذا المشروع. فقرأنا من يقول في مقال تحت عنوان «عملية قيصرية فاشلة لولادة الشرق الاوسط الجديد»: «إن هذا المشروع الذي أعدته ادارة الرئيس، بوش وأعلنت عنه رايس في نيويورك مرة، وفي بيروت مرة، وأمام أولمرت وحكومته مرة اخرى، وتعهد أولمرت بناء على طلب واشنطن بتنفيذ أول فصل من فصول تنفيذه في تدمير لبنان الشقيق وتصفية المقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، على أمل ان تنجح قوات الاحتلال الاميركي بتصفية المقاومة العراقية، أضحى مشروعاً برسم التنفيذ العاجل قبل أن تنتهي ولاية الرئيس بوش الثانية». وقرأنا آخر يقول تحت عنوان «الشرق الأوسط الجديد.. عبارة رنانة»: «الشرق الأوسط الجديد الذي تَبَرْعَم في أحشاء الحرب الإسرائيلية ، ولن يخْرج منها عمَّا قريب سوى برقية تعزية أبرقتها رايس إلى أهل الميِّت، الذي هو لبنان». هل المشروع استعمار جديد؟ وقالت «حماس» إن مشروع الشرق الأوسط الجديد «الذي أعلنته الإدارة الأميركية ما هو إلا امتدادٌ للنظام العالمي الجديد والمنطق الإمبريالي الذي تحاول الولاياتالمتحدة فرضَه على شعوب المنطقة لصالح الكيان الصهيوني، وتكريس احتلاله ومساندة عدوانه على شعوب المنطقة ومقدَّراتها، مؤكدةً ضرورة وقف التدخل الأميركي في شؤون وسياسات الدول العربية والإسلامية». وتتابعت أقوال معظم مختلف المعلقين والمحللين السياسيين العرب على هذا النحو، علماً بأنه لم تنشر نصوص هذا المشروع في ذلك الوقت، ولم يقرأه أحد. وهذا الكلام هو الكلام نفسه الذي قيل في عام 2004 عندما طرحت أميركا مشروع «الشرق الأوسط الكبير». ولم نسمع أصواتاً عقلانية نحو هذا المشروع إلا النزر اليسير ، ومنها صوت نور الدين حشاد نائب الأمين العام للجامعة العربية الذي قال: «محتوى مشروع الشرق الأوسط الكبير هو الديمقراطية والاقتصاد الحر وتعليم الفتيات ومحاربة الفقر. أي أن هذا المحتوى لا يتضمن إبداعاً. ولكن إذا لم تأخذ أمرك بنفسك فغيرك سيأخذه. والسياسة لا تقبل الفراغ» (الحياة، 19/2/2004). فمتى نقرأ أولاً لكي نفهم؟. الشرق الأوسط القديم منذ مدة قصيرة، نشرت صحيفة «أتلانتك»The Atlantic الأميركية تقرير صحفيا للكاتب جيفري جولدبيرغ، ونشر على الانترنت بعدة ترجمات منها العربية التي قامت بها الصحيفة الأليكترونية العربية «آخر خبر»، الصادرة في دينفر بولاية كولورادو. ويقول جولدبيرغ إن البريطانيين والفرنسيين هم الذين شكلوا الشرق الأوسط من قبل. فبعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية وسقوط الخلافة الإسلامية 1924، قامت الدولتان الغربيتان المنتصرتان بإعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط من جديد. قام ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا بضم أقاليم ثلاثة أطلق عليها العراق وقدمها للملك فيصل بن الحسين الأول الذي توّج ملكاً على العراق عام 1930 . كما تمَّ تشكيل سوريا ولبنان، وأعلنت فرنسا قيام لبنان الكبير 1920. وقامت بريطانيا بتنصيب الملك عبد الله بن الحسين الأول عام 1946 ملكاً على إمارة الأردن التي أصبحت «المملكة الأردنية الهاشمية» ونالت استقلالها في العام نفسه. ووعدوا اليهود بإقامة دولة لهم في فلسطين، بموجب وعد بلفور الشهير الذي صدر عام 1917 . والهاشميون ينكرون هذا التاريخ. بل يضعون هذا التاريخ في غرفة خاصة بمكتبة الجامعة الأردنية بعمان، يُطلق عليها «الغرفة السوداء»، والتي تحتوي على كل ما كُتب عن تاريخ الهاشميين في المنطقة من قبل العرب والعجم على السواء، ولم يكن مقبولاً من قبل السلطة. ولا يحق لأحد من الطلبة، أو أساتذة الجامعة الأردنية، أو الباحثين من الخارج، الإطلاع على محتويات هذه الغرفة من وثائق وكتب ومخطوطات، إلا بإذن خاص من رئيس الجامعة وبحدود ضيقة جداً. إلا أن المصادر الغربية أصبحت متوافرة جداً عن هذه الحقبة. بل فيها الخبر اليقين أكثر من المصادر العربية التي تأتي عادة تحت ضغط السلطة، أو لحاجة في نفس يعقوب. ولا شك أن تشكيل الشرق الأوسط الذي تم بعد الحرب العالمية الأولى، من قبل الدول الاستعمارية وخاصة بريطانيا وفرنسا كان من ضمن المكائد والاتفاقات السرية التي تمت في تلك الفترة. واعترف المؤرخ ديفيد فرومكين في كتابه (سلام يدمّر أي سلام) بأن خريطة الشرق الأوسط الحالية هي نتيجة عاملين مهمين من صُنع القوى الغربية العظمى بُعيد الحرب العالمية الأولى، وهما: 1- تعهد الدول الأوروبية بإعادة تشكيل المنطقة، ومنها بالطبع انشاء الدولة الصهيونية في فلسطين. 2- إخفاق كل من بريطانيا وفرنسا في حماية الأسر والأنظمة الحاكمة في منطقة الشرق الأوسط (الهاشميون في العراق وسوريا، والعلويون في مصر، والسنوسية في ليبيا مثالاً لا حصراً). الشرق الأوسط الجديد بعد 2003 لا شك أن الشرق الأوسط بعد غزو العراق 2003 بدأ يتشكّل من جديد سواء على مستوى العراق الداخلي أم على مستوى الدول العربية والإسلامية. وهذا التشكّل وإن لم تتضح كافة معالمه بعد، إلا أن المراقب المُدقق في الخريطة السياسية الشرق أوسطية الآن يدرك عدة حقائق منها: 1- انقسم العراق في الداخل إلى ثلاثة أقسام: مناطق كردستان الشمالية ، منطقة الوسط السنية، ومنطقة الجنوب الشيعية. وهذا التقسيم غير معلن وخاصة بالنسبة للوسط والجنوب، ويحتاج إلى ظروف سياسية خاصة لاعلانه كما حصل بالنسبة لكردستان العراق. ولعل حوادث الإرهاب التي تحدث بشكل يومي تقريباً في مناطق الوسط والجنوب هي عبارة عن (الطَلق) السياسي لميلاد إقليم سُني واقليم شيعي. فالولادة ستتم يوماً، سواء جاء هذا المولود حياً أم ميتاً. 2- إن استبدال الديكتاتورية (عهد صدام حسين) بالطائفية الحالية في العراق، يعني أن العراقيين أنفسهم والزعماء منهم وليست أميركا هم الذين يصرون على تقسيم العراق رغم نفيهم لهذا. فالسارق لا يعترف يوماً بأنه سارق. وهل سمعتم عاهرة قالت عن نفسها ذلك؟ كذلك هم معظم السياسيين في العراق وفي العالم العربي. ولعل النفوذ الإيراني في العراق واضح الآن، والذي تجلّى أكثر ما تجلّى خلال زيارة أحمدي نجاد الأخيرة للعراق (ديسمبر 2007) حيث سكتت أصوات المدافع والسيارات المفخخة والأحزمة الناسفة وبدت بغداد (الفردوس المفقود)، وهي تستقبل دون حراسة مشددة أحمدي نجاد، وكأنه يسير في شوارع طهران أو دمشق. وهذا يدلُّ على مدى أهمية جنوب العراق بالنسبة لإيران من الناحية الدينية ومن الناحية النفطية. فمن المعلوم أن جنوب العراق مشدود إلى إيران أكثر منه إلى عراق السُنّة والأكراد. ووجود الأماكن المقدسة الشيعية (النجف وكربلاء خاصة) في العراق تجعل من الجنوب العراقي جزءاً روحياً لا يتجزأ. فأهمية النجف وكربلاء بالنسبة للشيعة تقترب من أهمية مكة المكرمة والمدينة المنورة الدينية بالنسبة للسُنّة، ويزورها يومياً حوالي عشرة آلاف زائر إيراني. زيادة على ذلك، فإن مخزون إيران من النفط لا يتجاوز 88 مليار برميل من البترول (نسبة 16% من مخزون نفط الخليج). وقد بدأ هذا المخزون يتناقص الآن ولو قليلاً، دون وجود اكتشافات جديدة، مما سيدفع الإيرانيين إلى النظر بجدية تامة إلى الجنوب العراقي الغني جداً بالبترول. كذلك، فإن الجنوب العراقي يُشكِّل الذراع الإيرانية اليمنى في جسم العالم العربي، كما يشكل الجنوب اللبناني الذراع الإيرانية اليسرى. وتكون إيران بذلك قد احتضنت العالم العربي بقوة، سيما وأن القنبلة النووية الإيرانية (المهدي المنتظر) قادمة قريباً لا محالة، والشيعة يملأون دول الخليج، ويشكِّلون حوالي 75% من مجموع السكان. كما أن إيران تملك رأس جسر شيعيا في شبه القارة الهندية (من أفغانستان إلى الهند) حسب قول المفكر الفرنسي المتخصص بشؤون الجماعات الإسلامية والإسلام السياسي في الشرق الأوسط أوليفيه روا، في كتابه (تجربة الإسلام السياسي، ص 181). 3- وبعد 2003 أصبح العراق وكأنه مسلوخ عن خريطة الشرق الأوسط، وينتمى إلى كتلة قومية وجيوسياسية غير الكتلة العربية. وبدت الأنظمة العربية، وكأنها لا تعترف بالعراق وبالعهد الجديد في العراق. فلا سفارات، ولا تمثيل دبلوماسيا، ولا بعثات دبلوماسية. حتى الجامعة العربية، كانت تتحدث مع العراق الرسمي بخجل شديد مع احمرار دائم في الخدين، وكأن العرب عاشق يغازل محبوبته (العراق) في غفلة من الأهل والناس. وساعدت الميليشيات والانتحاريون على تصعيد هذه الحالة، وذلك بخطف بعض الدبلوماسيين وقتلهم (السفير المصري إيهاب الشريف، ومجموعة من دبلوماسيي الأممالمتحدة، 2005 مثالاً لا حصراً). وهذه العزلة للعراق التي أرادها العرب، ولم يردها العراق، وكأن العراق قد دبَّ به مرض الجرب بعد 2003 فابتعد عنها العرب خوفاً من البلاء، ساهمت في تشكيل جديد لخريطة الشرق الأوسط، وإن لم تتغير الحدود، وتُرسم حدود جديدة، وتنشأ بلدان جديدة كما تمَّ بُعيد الحرب العالمية الأولى. 4- بالنسبة لبلدان الشرق الأوسط، فقد انقسم العالم العربي في مشرقه خاصة بين قسمين: المعتدلون العرب (دول الخليج ومصر والأردن، والموالاة اللبنانية، ومنظمة «فتح») والممانعون العرب (سوريا، وحركة «حماس»، و«حزب الله»، والمنشقون الفلسطينيون في دمشق، وإيران). وبقي العراق بعيداً - ولو ظاهرياً - عن هذه التجاذبات. وهو ما يعني تشكيلا جديدا للتحالفات الشرق أوسطية التي على ضوئها يمكن أن ينشأ شرق أوسط جديد. لماذا فشل مشروع الشرق الأوسط الكبير؟ المطب الصعب الذي تقع فيه الدوائر الغربية في اشتباكها وانهماكها وتعاطيها للشرق الأوسط، أن القرارات التي تتخذ بشأن الشرق الأوسط لا تكون مدروسة بما فيه الكفاية من قبل صُنّاع القرار. ويقيني أن صُنّاع القرار الغربيين جهلة جداً بتاريخ الشرق الأوسط وبالنواحي الاجتماعية والدينية والثقافية لهذا الشرق، وهم في غفلة عن هذا الشرق، رغم الكم الهائل من الدراسات والتقارير التي كتبها المستشرقون وغير المستشرقين. فهؤلاء الساسة لا يقرأون جيداً، وربما يصل جهلهم بالعالم ومناطقه جهل معظم الساسة العرب. وهؤلاء الساسة الغربيون يبنون قراراتهم على ما يردهم من أعضاء سفاراتهم في الشرق الأوسط الذين يقبعون في مكاتبهم، ولا يعلمون ما يدور في الشارع العربي كما لا يتابعون بجدية كل ما يكتب ويقال ويذاع وينشر عن تفاصيل الحياة في الشرق الأوسط. والبرهان الكبير على ذلك هو ما وقعت فيه الإدارة الأميركية التي اتخذت قرارها بغزو العراق من خلال المعارضة العراقية وتحريضها على حكم صدام حسين. فوقعت في مأزق الطائفية الدينية، والعصبية العرقية، والاصطفاف العشائري. وهذا ما يقوله بالضبط جيفري جولدبيرغ في تقريره المذكور حيث يؤكد على أن صُنّاع القرار في الغرب «يعتمدون على الخبرة والحدس أكثر من اعتمادهم على التخطيط المحكم» ويحاول جولدبيرغ أن يحدد أسباب فشل الغرب وأميركا على وجه الخصوص في إدارة شؤون الشرق الأوسط الكبير والصغير على السواء، بما يلي: 1- عدم دراسة بلدان الشرق الأوسط دراسة عميقة محيطة بكل عناصر الضعف والقوة في الشرق الأوسط. 2- الهجوم الإعلامي الرخيص على الدين الإسلامي والمسلمين. ففي الوقت الذي يحترم فيه معظم المثقفين والأكاديميين الغربيين كل الأديان بما فيها الدين الإسلامي والمسلمين، يتجه الإعلام الغربي إلى تحقير هذا الدين وأتباعه. 3- استمرار عدم فهم سكان الشرق الأوسط حقيقة العولمة، بفضل هجوم الإعلام الشرق أوسطي على العولمة من أنها الاستعمار الجديد. في حين أن العولمة دعوة من العالم للجميع بحرية انتمائهم لأية هوية إثنية أو دينية يؤمنون بها. عن صحيفة الوطن القطرية 26/3/2008