تركيا وثلوج كردستان العراق عبدالله حموده بدأ الحذر يسود الموقف الإقليمي والدولي بشأن احتمالات تفاقم الموقف في شمال العراق، بسبب المواجهات المسلحة غير المسبوقة بين القوات المسلحة التركية وميليشيات حزب العمال الكردستاني. فقد حددت تركيا أهدافها في ملاحقة تلك الميليشيات وتحييد خطر هجماتها ، كما حددت مجال عملياتها العسكرية في مدى لايتخطى 20 كيلومترا من حدودها مع العراق ، وأكدت أنها لن تهدد أية أهداف مدنية. ومن الناحية النظرية يبدو ذلك ممكنا ، لأن تلك المنطقة - في معظمها - ذات طبيعة جبلية وعرة، ولاتضم كثافة سكانية عالية، ويتضح التركز السكاني في القرى المتناثرة والمناطق الحضرية المحدودة، وهي معروفة جيدا للمخابرات العسكرية التركية، تماما مثل مناطق تمركز حزب العمال الكردستاني ومعسكراته. لكن من الناحية العملية يبدو الموقف مختلفا، لأن التشكيلات المقاتلة التابعة للحزب صغيرة العدد ، وتستطيع التقدم إلى مناطق تواجد القوات التركية في العراء تحت الثلوج لتصيد أفرادها، ثم التراجع للاحتماء بالتجمعات السكانية التي تتعاطف معها، ولذلك فإنه - في ظروف الملاحقة وقطع طريق المناورة - يصعب على القوات التركية الالتزام بمنطقة العشرين كيلومترا من حدود بلادها، كما تتزايد مخاطر إصابة أهداف مدنية، حتى وإن اقتصر ذلك على أهداف مادية في البنية الأساسية مثل الجسر القريب من مدينة زاخو، الذي أضر هدمه بحركة المدنيين لمتابعة حياتهم في أعمالهم اليومية، وإن رأى القادة الأتراك في تدميره ضرورة تكتيكية مهمة. ومن ناحية أخرى وفي ظروف طبوغرافية وطقس من هذا النوع فإن استمرار هذه العمليات في شمال العراق لفترة قد تطول ، يخلق احتمالات أمام الميليشيات لإلحاق خسائر كبيرة بالقوات التركية، ويفقدها ميزات التنظيم العسكري والتسليح الثقيل، لأن الأرض في تلك المنطقة تناسب عمليات القوات المحدودة العدد وخفيفة التسليح في حرب عصابات، وهذه نقطة لصالح حزب العمال الكردستاني. ومن ثم فإن طول أمد هذه العمليات يثير احتمالات تفاقم التوتر بين حكومة العراق المركزية في بغداد وتركيا، فضلا عن أثره في تعزيز الموقف الكردي المتعاطف مع حزب العمال الكردستاني ضد أنقرة ، إضافة إلى احتمالات زيادة الخسائر في صفوف القوات التركية ، مما يزيد حدة العداء ويعقد التوصل إلى تسوية سياسية، يجري فيها فرض التعاون مع أنقرة على سلطة الحكم في كردستان العراق. وهنا تجدر ملاحظة أن مقاتلي حزب العمال الكردستاني يعرفون المنطقة بأكثر من القوات التركية، بما يتضمنه ذلك من احتمالات الحركة والاحتماء بطرق طبيعية، وخطوط إمدادهم قصيرة ويمكن إدارة شؤونها بسهولة. ولأن هذه نقطة خطيرة بالنسبة للقوات التركية، فقد تؤدي إلى تدحرج الموقف كله فوق ثلوج كردستان العراق إلى هاوية عداء سحيقة. في هذا السياق يمكن تفهم سقوط جنود أتراك في العمليات منذ اليوم الأول، بلغ عددهم حسب البيانات التركية 12 جنديا، وتقول مصادر حزب العمال أنهم يصلون إلى الخمسين، ويحتفظ الحزب بجثامين العدد الأكبر منهم، وإسقاط طائرة هليكوبتر "كوبرا". وفي حين تقول البيانات العسكرية التركية أن قتلى حزب العمال الكردستاني يصلون إلى 60 مقاتلا، وفي حين يتعذر التأكد من صحة هذه الأرقام من مصدر محايد، يظل الموقف مرشحا للتفاقم. وهنا أيضا تبدو القيادة السياسية قي كردستان العراق، وكأنها تعيد حساب موقفها من "الأصدقاء" الأميركيين، لأنهم يدعمون العمليات العسكرية التركية في منطقتهم، ويعني ذلك أن هناك "حدودا" للتأييد الذي يمكن أن يقدمونه إذا تطرق الأمر إلى الطموحات الاستقلالية. وبسبب حاجة واشنطن إلى تهدئة خواطر أكراد العراق، فقد بدأت - من خلال تصريحات رسمية، تستبق زيارة وزير الدفاع الأميركي روبرت جيتس أنقرة - دعوة الحكومة التركية إلى إنجاز مهمة قواتها والانسحاب عائدة إلى أراضي بلادها في أقرب وقت ممكن. ويعقد الأتراك أملهم من الناحية السياسية على أن يشعر قادة الأكراد العراقيين أن تواجد ميليشيات حزب العمال الكردستاني على أراضيهم يمثل عبئا يصعب عليهم تحمل تبعاته، والحملة العسكرية الجارية الآن رسالة واضحة بهذا الشأن. كما أنها يمكن أن تضعف قدرات ميليشيات الحزب لشن عمليات داخل الأراضي التركية، وتحقق ميزة تكتيكية بنقل المعركة إلى أماكن تمركزه. ويحتاج ذلك إلى استعدادات كبيرة لعمليات تتضافر فيها جهود مختلف فروع القوات المسلحة، لإجراء ما يمكن تسميته "جراحة سريعة". وفي ضوء الفترة الزمنية للإعداد لعملية من هذا النوع، منذ قرار البرلمان التركي في أكتوبر الماضي بتفويض الحكومة شن مثل هذه العملية، وبدء ذلك بهجمات جوية لابد وأن تكون صحبتها عمليات استطلاع وتصوير للمواقع حتى عبور القوات التركية حدود العراق مساء يوم 22 فبراير الجاري، يتوقع أي مراقب عسكري أن تكون تركيا استعدت لتلك العملية على النحو المطلوب، لكن في خضم المتابعة اليومية. ومع تلاحق البيانات المتناقضة، يصعب التكهن بحقيقة الموقف، اللهم إلا في ضوء حدوث ضغط أميركي قوي على أنقرة للانسحاب من العراق، إذا شعرت واشنطن بأن العملية لن تحقق أهدافها، أوأن الولاياتالمتحدة الأميركية يمكن أن تخسر سياسيا، بسبب الدعم المعلوماتي الذي تقدمه لتركيا. وعلى الجانب التركي يمكن أن تقرر أنقرة سحب قواتها عند اعتقاد حكومتها أنها حققت هدفها، أوتفاديا لتفاقم الموقف عسكريا أوسياسيا بدرجة لايمكن معالجتها. يؤكد ما يجري في شمال العراق الآن، أن الحرب هي إحدى أدوات تنفيذ السياسات؛ فما تريده تركيا هو الحفاظ على وحدة أراضيها، ووضع حد للطموحات الانفصالية الكردية في جنوبها الشرقي، وتأتي عمليتها العسكرية هذه في هذا الإطار. لكن خشيتها من أي قصور في تحقيق أهدافها، ورغبتها في استقطاب تأييد كافة الأطراف المعنية حتى أولئك الذين تجري العمليات على أرضهم دفعها إلى الإعلان عن إرسال مبعوث إلى بغداد لتوضيح الموقف، للحد من تصاعد القلق بشأن مايجري، وللحفاظ على علاقات مهمة بين البلدين لمصلحة كل منهما، ولمصلحة الاستقرار الإقليمي بوجه عام . عن صحيفة الوطن العمانية 27/2/2008