لا أعرف معنى لموجة الغضب التي صدرت عن شخصيات قبطية داخل مصر وخارجها بعد نشر التقرير الذي أصدره مركز أمريكي متخصص عن الأقليات الدينية حول العالم ، والذي حدد فيه في الجزء الخاص بمصر أن عدد الأقباط في مصر هو أربعة ونصف مليون نسمة ، بنسبة تصل إلى 5,6% من مجموع السكان.
ردود الأفعال القبطية العصبية والتشنج الذي اتسمت به صحف المليادرير القبطي نجيب ساويرس في تناولها للموضوع ليس له من معنى مفهوم سوى التعصب الطائفي البغيض ، الغريب أن بعض القيادات القبطية تحدثت عن نشر هذا التقرير بوصفه يضر بالوحدة الوطنية ويتسبب في إثارة الطائفية في المجتمع .
وليت هذه الجهات توجهت بذلك الكلام إلى قيادات كنسية رفيعة لم تتردد طوال السنوات الماضية عن النفخ في مسألة تعداد الأقباط وأنه عشرة ملايين ثم اثني عشر مليونا ثم خمسة عشر مليونا ثم عشرين مليونا ، وكلام بالغ السخف علميا ومنطقيا ، فضلا عن كونه مزايدة طائفية بحتة ، وقد نسبت الصحف والمواقع القبطية إلى البابا نفسه طوال سنوات ولم ينف البابا ذلك بأنه أعلن أن لدى الكنيسة إحصاءا خاصا بها عن تعداد الأقباط .
رغم أن هذا العمل لو افترضنا صحته لكان خروجا على القانون الذي يحظر إجراء أي إحصائيات في المجتمع من أي نوع إلا من خلال الجهة التي أناطها القانون بذلك ، وهي المركز القومي للتعبئة العامة والإحصاء ، فقط تذكروا الوطن ووحدته عندما كشف مركز أمريكي ، وليس مركز جماعات الإسلام السياسي !! ، عن الرقم العلمي لتعداد الأقباط في مصر.
هل مركز "بيو" هو أحد أذرع الإخوان المسلمين مثلا ، وما هي مصلحة مثل هذا المركز في أن يجامل هذا الطرف أو ذاك ، بل إن مصلحته كجهة علمية أن تكون بياناته علمية ودقيقة لتحظى بموثوقية على مستوى العالم ، والغريب أن الإحصاء الذي أعلنه المركز الأمريكي لم يثر أي ضجة عند معظم الأقليات الدينية في العالم ، إلا في مصر ، ثم إن الأرقام والنسب المئوية التي أعلنها مركز "بيو" متطابقة مع النسب المئوية التي تم رصدها على مدار مائة عام في مصر والتي كان يرأس بعض أجهزتها في مراحلها الأولى خبراء وعلماء أقباط وانجليز.
وحتى آخر إحصاء رسمي معلن في عام 1988 ، فالنسبة دائما شبه ثابتة تتراوح حول رقم 6% ، وفي نهاية الثمانينات تم توجيه المركز القومي للتعبئة العامة والإحصاء إلى الامتناع عن الكشف عن البيانات الخاصة بالمسألة الطائفية في مصر ، بمعنى عدم الكشف عن تعداد المواطنين الأقباط أو المسلمين أو الإعلان عن النسب المئوية لطوائف المجتمع ، مراعاة لمشاعر الأقباط .
وكان هذا التوجيه برغبة ملحة من قيادة كنسية كبيرة استجابت لها الدولة كجزء من تسوية سياسية بعد أزمة الصدام العنيف مع رئاسة الجمهورية في نهاية عصر السادات والتي انتهت بعزل البابا شنودة في أحد الأديرة ، ولم يعده الرئيس مبارك إلا بعد عدة سنوات من استقراره في حكم مصر.
وبشكل عام فإن ما يحكم العلاقة بين مسلمي مصر وأقباطها لم يكن أبدا هو عدد الأقباط ، وإنما هي روح المواطنة والجوار والتسامح التي جعلت من أقباط مصر أكبر واغني أقلية دينية في العالم العربي كله ، وحالة متميزة يصعب أن تصنفها كطائفة مختلفة عن نسيج الوطن كله .
ولم يثر مثل هذا القلق الطائفي إلا في السنوات الخمس والثلاثين الماضية عندما بدأت بعض القيادات الكنسية تحول الحالة القبطية إلى حالة سياسية وتمارس عملية استقطاب ديني وتحويل الكنيسة إلى دولة داخل الدولة .