انور السادات يوقع معاهدة كامب ديفيد بعد مرور أربعة أيام على إصدار هذا العدد من صحيفة «العربي» وتحديدا يوم 26 من شهر مارس الجارى تحل الذكرى المشؤومة لتوقيع السادات فى منتجع كامب ديفيد على المعاهدة بين مصر وإسرائيل ومن يومها وإلى يومنا هذا وإلى أن تلغى هذه المعاهدة سيظل حال مصر على ما هو عليه من تدهور فى جميع المجالات وهو تدهور يبدو أنه ليس له قاع.
والتدهور الحاصل قد لا يبدو فى النظرة السطحية وله صلة بهذه المعاهدة لكن النظرة الغامضة والمدققة تؤكده. صحيح أن خيبات الحزب الوطنى الحاكم المستمر فى الحكم منذ تأسس فى يوليو 1978 وإلى يومنا هذا (واحد وثلاثون عاما طوالا شدادا) سؤال عن التردى الذى شمل مناحى الحياة على أرض مصر كافة. لكن الحقيقة أن الغزوة الصهيونية كانت موجهة إلى مصر قبل فلسطين.
وأن القوى الدولية الطامعة فى إرث الخلافة العثمانية والراغبة فى السيطرة على الشرق أدركت منذ بداية القرن التاسع عشر أن مصر هى القوة المحلية الوحيدة القادرة فى المستقبل المرئى على توحيد الأمة العربية وعلى تحدى المطامع المرسومة للمنطقة بعد تفكك الدولة العثمانية وانهيارها.
إن القوى الأوروبية كما تذكرون حاصرت محمد على وضيقت الخناق عليه. ثم استطاعت ضربه وفرضت عليه معاهدة عام 1840 وهدفها إبعاد مصر نهائيا عن المشرق العربي. وكان الأمر يحتاج بجانب معاهدة 1840 إلى ما نسميه اليوم «إجراءات أمن إضافية» وتقدم البارون روتشيلد عميد البيت المالى اليهودى العتيد إلى اللورد «بالمرستون» رئيس وزراء بريطانيا فى ذلك الوقت يعرض عليه فكرة تمكين اليهود فى الهجرة إلى فلسطين وإقامة نطاق من المستوطنات فيها يكون بمثابة حائط يحجز أو على الأقل يعطل أى حركة من مصر إلى المشرق أو أى حركة من المشرق إلى مصر.
خطاب روتشيلد إلى بالمرستن ووضح الصلة بين المعاهدة التى عقدها السادات مع إسرائيل والتدهور الذى أصاب مصر بعدها وبسببها ففى خطاب روتشيلد إلى بالمرستون يقول الأول بكل وضوح إن فى إقامة وطن قومى لليهود بالهجرة إلى فلسطين «ليست فقط خدمة لليهود ليعودوا بها إلى أرض الميعاد مصداقا للعهد القديم.. ولكنها خدمة للامبراطورية البريطانية ومخططاتها (ومعها الدول الغربية طبعا) فليس مما يخدم الامبراطورية أن تتكرر تجربة محمد على سواء بقيام دولة قوية فى مصر أو بقيام اتصال بين مصر والعرب الآخرين..» هكذا بكل وضوح!!
و تكررت تجربة محمد على بمجيء الثورة وعلى رأسها جمال عبدالناصر وقامت فى مصر دولة قوية وأيضا على اتصال بالعرب الآخرين إلى حد قيام دولة واحدة تضم مصر وسوريا فإن آمال روتشيلد تكون قد خابت.
لكن الغرب بكل أسف لا يعرف اليأس للوصول إلى هدفه. كما أنه مما يسهل له ذلك أن يوجد بين الزعماء والرؤساء العرب من هو مستعد للتعاون معه مادام ذلك يحقق طموحه فى البقاء على كرسى السلطة مادام التأييد الغربى يمكن أن يكون بديلا عن الشرعية التى يفتقدها داخل بلاده. أو بسبب مرض نفسى يهيئ له أن التقرب من الغرب يدخله فى زمرة زعماء العالم!! فيرفع هذا من مكانته بين ملوك ورؤساء الأقطار العربية ويجعله بينهم أعلى مرتبة!!
والأرجح أن يكون مثل هذا الرئيس يستمر فى أعماقه بأنه أدنى من الآخرين طبقيا واجتماعيا حتى بين رفاق الدراسة والمحيطين به ومن يعتبرهم زملاء وأصدقاء. وهذا المرض النفسى كان دائما نقطة الضعف التى ينفذ منها من يسعون إلى تجنيد العملاء والجواسيس.
الحاصل أن هدف الغرب ومعه إسرائيل كان إزاحة عبدالناصر ومحو كل ما انجزه على الصعيد الداخلى والعربى والدولي. وبرنامج تجربة حياة للأستاذ هيكل روى بعضا من جوانب المؤامرات التى حيكت لقتل عبدالناصر وإضعاف وهزيمة مصر حتى بالعدوان السافر.
والحاصل أن عبدالناصر بعد سنوات قلائل من هزيمته فى عدوان 67 توفى إلى رحمة الله وتولى السادات الحكم بدلا منه.
والحاصل كذلك أن السادات بعدما استقرت له مقاليد السلطة بعد أن قدم له رفاق عبدالناصر أنفسهم ومناصبهم واستقالاتهم من مناصبهم على طبق من الفضة هدية مجانية فكان أن قدمهم لمحكمة خاصة شكلها قضت بإعدام بعضهم وسجن الباقين. وهو ما يعرف بثورة 15 مايو!! دون أن يمت ذلك بأى صلة بالثورة.. أى ثورة.. معنى الثورة وظلم معها حتى الكوبرى الذى سمى باسمها.
ومن يومها أصبح هدف محو كل أثر لجمال عبدالناصر وانجازاته يتم جهارا نهارا وإلى يومنا هذا. فالنظام القائم امتداد لحكم السادات والتغيير قاصر على الشكل وليس المضمون.
الحاصل الذى لا يعرفه ولا نعلمه علم اليقين ولكن التاريخ سوف يكشفه يوما أن السادات فجأة وبلا مقدمات وباسم السلام ومن فوق منصة مجلس الشعب وبحضور ياسر عرفات أعلن عن استعداده للسفر إلى أى مكان من أجل السلام ولو كان هذا المكان هو القدس (المحتلة)!!.
وسافر السادات إلى إسرائيل وكان قراره وحده إلى حد أنه تفاخر علنا بأنه لم يستشر أحدا فى اتخاذ هذا القرار!! وهناء جاء دور الحزب الوطنى الذى أسسه السادات قبل ذلك فى يوليو 1978 الذى هلل لهذا القرار!! وخرجت منه المظاهرات المؤيدة لرئيسه ولخطوته التاريخية وخرج معها سرب من مقاتلات سلاح الجو الإسرائيلى للقاء طائرة السادات ترحيبا به!!
المثير للدهشة أن مناحم بيجين رئيس وزراء إسرائيل فى حين أعلن بوضوح موقفه وهو يتلخص فى أمرين: الأول: إنه يرحب بالزيارة ترحيبا حارا. والثاني: إن إسرائيل لن تنسحب إلى ما وراء خطوط 76 وأن إسرائيل لن تقبل بقيام دولة فلسطينية!! لكن أحدا لم يلتفت إلى ما قال واستمر السادات فى طريقه إلى إسرائيل! وكلنا من المفترض أنه يعلم بما جرى بعد ذلك فى الجانب المصري: صخب و ضجيج ومظاهرات لتأييد السادات. لكن محصلة الزيارة كانت صفرا كبيرا وفشلا ذريعا إلى حد اعتراف السادات بذلك وقوله إنه يودع مبادرته كتب التاريخ!!.
بعد عامين دعت أمريكا الحليف الاستراتيجى لإسرائيل السادات وبيجين إلى منتجع كامب ديفيد، وما أسوأ ما يجرى فى هذه المنتجعات، دون الدخول فى تفاصيل لا يتسع لها الحيز المتاح لهذا المقال، فإنه فى 62 مارس 1979 وقّع السادات مع مناحم بيجين معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل لنفهم أبعاد الكارثة التى حاقت بمصر علينا أن نتذكر:
1 إن الصهيونية كانت منذ القرن التاسع عشر تستهدف مصر وليس فقط إقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين وخطاب روتشيلد آنف الذكر إلى بالمرستون شاهد على ذلك.
2 إن الصهيونية كانت تريد إقامة علاقات مع مصر لتخرجها من دائرة الصراع مع العرب. وفى مذكرات محمد حسين هيكل باشا الجزء الثالث وفى مذكرات وبرقيات مندوب مصر فى مباحثات لوزان ما يثبت ذلك ويؤكده.
3 كان تشكيك مصر فى عروبتها وفى نفسها عن طريق أصحاب أقلام مصرية وسياسيين مصريين كبار بكل أسف قصد مقصود يراد منه أن يهتز يقين الشعب المصرى فى كل شيء حتى فى نفسه ليصل إلى حالة من الاحباط الشديد تورثه شعورا من اللامبالاة يجعله يقبل بما لا يمكن قبوله ويسكت عما لا يجوز السكوت عنه. وقد نجح هذا المخطط بامتياز على ما نرى ونشاهد.
4 وبعد المعاهدة كان الهدف الإسرائيلى هو إضعاف مصر عسكريا واقتصاديا وسياسيا ومنشغلة بهموم داخلية صغيرة. وكان نشر الفساد وتعميمه واعتباره أمرا مألوفا و«ظاهرة عالمية!!» أمرا كافيا لتفكيك المجتمع وسرطانا يأكل فى عظام ولحم الأمة ويجعل مصر بناء هشا قابلا للسقوط وهنا نحن نرى التدهور عاما وشاملا فى الصحة وفى الزراعة وفى الثقافة وفى التعليم وفى الطرق ووسائل المواصلات.. بل حتى فى أرصفة الشوارع وطال حتى رغيف الخبز.. وما مظاهرات واحتجاجات الموظفين والعمال والمهنيين التى لا يخلو أسبوع واحد منها إلا تعبير عن تقيح أورام وأمراض الجسم المصري.
التدهور أصبح شاملا وعميقا عمقا لا يبدو أنه له قاع.
كانت الصهيونية تريد ذلك وتستهدفه منذ زمان طويل. وجاءت المعاهدة لتساعد على تقنينه وجاءت العلاقة الاستراتيجية مع الولاياتالمتحدة لتزيد الطين بلة.
فى ظنى وهى كلمة عربية تعنى اليقين أن كل نشاط سياسى لن يؤدى إلى نتيجة ما بقيت هذه المعاهدة المشئومة قائمة، وما بقى رعاتها قائمين على أمر البلاد والعباد. فلا طريق للإصلاح إلا بالتخلص من هذه التبعية لإسرائيل وأمريكا.. ومن هنا نبدأ.