لا يوجد دواء ولا غذاء، وحتى الماء مشكوك في صلاحيته، أما السكن فهو العراء لمئات الآلاف من أبناء شعب غزة، الذي بات لسان حاله يقول: "ضرب من الكيان وحصار من مصر.. ما كل هذا الظلم"، إنه ظلم بالفعل عبّرت عنه السيدة رائدة حسن التي تحدثت إلينا بعيونٍ حائرةٍ يملؤها الحزن والحسرة، وهي ترمق وجه طفلها محمد البالغ من العمر 8 أعوام، وهو يرقد أمامها على سرير المرض.. والموت يزحف إليه بطيئًا، وهي لا تملك حيلةً.. الطفل الذي يعاني الفشل الكُلوي، تشهد حالته الصحية ترديًا وتراجعًا ملحوظًا بسبب نقص الأدوية والمقويات التي تمكّنه وتعينه على مواجهة المرض.
وتقول الأم بصوتٍ متهدّجٍ يغلب عليه الحزن: "يحتاج محمد للعلاج والمقويات بشكلٍ دائمٍ، وأخشى من تدهور حالته الصحية وموته بسبب نقص الدواء وعدم وجود أي علاج".
وقالت وهي تبكي وتشير لابنها-: إنَّها لم تترك بابًا في سبيل توفير علاج لفلذة كبدها إلا وطرقته، لكن لم تفلح هذه المحاولات في إيجاد ما يشفي غليلها؛ حيث كانت تعود أدراجها خالية الوفاض.
وتحذِّر وزارة الصحة بغزة من خطورة استمرار العجز في الرصيد الدوائي في مخازنها؛ نتيجة إغلاق المعابر، ومنع الاحتلال لوصول الأدوية إلى قطاع غزة على حياة العشرات من المرضى الذين لا يزالون يرقدون في غرف العناية المركزة بالمستشفيات.
وعلى حد تعبير فلسطينيي القطاع؛ فإنَّ قوات الاحتلال الصهيونية تمنع دخول أي من المواد التموينية والأدوية إلا "بالقطارة"؛ بينما ترفض السلطات المصرية فتح معبر رفح إلا بوجود المراقبين الأوروبيين ومسئولين من السلطة الفلسطينية.
موت بطيء
وتبدي أم محمد حسرةً شديدةً من جرّاء عدم قدرتها على فعل ما يخفّف من آلام طفلها الذي لا يكاد يقوى على الحركة بسبب المرض، ويشكو بعد عودته من عملية غسيل الكُلى في المستشفى كل مرةٍ من آلامٍ شديدةٍ في رجليه ويديه، وصداع في رأسه.
آلام المرض التي يكابدها الطفل قد تكون أخفّ في تفاصيلها من مئات المرضى من ذوي الأمراض الخطيرة والمزمنة في قطاع غزة الذين لا يزالون يخوضون صراعًا مريرًا مع المرض، بعد نفاد عشرات الأصناف من الأدوية، ونقص العديد من المستلزمات الطبية من جرّاء الحصار الصهيوني، ومنعهم من السفر لمواصلة علاجهم في الخارج.
فالمواطن حسن عبد الرحمن (البالغ من العمر 50 عامًا) يعاني من مرض السرطان، ويقبع داخل مستشفى الشفاء الطبي ينتظر مصيرًا مجهولاً، يحمل بين يديه الأوراق اللازمة للسفر، وينتظر أيَّة فرصةٍ قد تمكّنه من قطع الحدود لتلقي العلاج المناسب؛ بيد أنَّه يشعر أنَّه سيقطع حدودًا أخرى ستفصله عن العالم في حال استمرّ صمت العالم تجاه ما يحدث في غزة.
وطالب عبد الرحمن كافة المؤسسات الحقوقية والجهات الدولية بحماية المرضى الغزيين؛ وخاصةً الأطفال الذين ليس لهم ذنب سوى أنَّهم فلسطينيون.
المواطنة أم أحمد شعبان (49 عامًا)، التي تعاني من مرض عضال، قالت إنَّها تشعر بأن المنيّة ستوافيها قبل أنْ تتمكن من السفر لتلقي العلاج بالخارج، لا سيما أنَّها تنتظر أنْ تعبر الحدود مع مصر عبر رفح منذ قرابة 6 شهور عاشتها بين الأمل واليأس، ومُنِعَت فيها مرتَيْن من قِبَلِ الجانب المصري من السفر.
وقالت: إنَّها وبعد هذه المعاناة سلَّمت أمرها لله تعالى، وسترقد في غزة تنتظر رحمة الله "لا رحمة من يتحكَّمون في المعابر".
مدينة بلا دواء
وقد تسارع سقوط المرضى في مستشفيات غزة في الآونة الأخيرة بسبب الحصار؛ حيث وصل عدد شهداء الحصار من المرضى إلى 317 شهيدًا حتى الأسبوع الأول من أبريل الحالي؛ مما دفع وزارة الصحة الفلسطينية إلى التحذير من كارثةٍ صحيةٍ وشيكةٍ من جرّاء نفاد عشرات الأصناف من الأدوية، ونقص المستلزمات الطبية، وتوقف مشاريع تطوير القطاع الصحي.
وقالت وزارة الصحة: إن تداعيات الحصار الخطيرة ما زالت تُلقي بظلالها على الوضع الصحي المتدهور في قطاع غزة، مع منع السلطات المصرية والصهيونية للمرضى الفلسطينيين من السفر لتلقي العلاج في الخارج عبر معابر غزة!.
وأكدت إدارة الصيدلة بالوزارة أنَّ 61 صنفًا من الأدوية نفدت من مخازن وزارة الصحة، وأنَّ 69 صنفًا من المهمات الطبية أصبح رصيدها هي الأخرى صفرًا، وناشدت المجتمع الدولي "التدخل الفوري والعاجل" للضغط على الاحتلال الصهيوني من أجل رفع الحصار وفتح المعابر.
وحذّر الدكتور معاوية حسنين مدير عام الإسعاف والطوارئ في مستشفيات قطاع غزة من تدهور الحالة الصحية لعددٍ كبيرٍ من المرضى؛ بسبب استمرار فرض الحصار على القطاع، موضحًا أنَّ هناك ما يقارب 600 مريض لا يزالون ينتظرون فتح المعابر والسماح لهم بالسفر إلى خارج القطاع، سواء إلى مستشفيات الخط الأخضر أو المستشفيات المصرية؛ لكي يتمكنوا من تلقي العلاج الذي لا يتوفر في مستشفيات غزة.
وأوضح "أنَّ هؤلاء المرضى يتعرضون إلى انتهاكٍ واضحٍ يهدد حياتهم باستمرار؛ إضافةً إلى وجود أكثر من ألف مريضٍ مقيمٍ للعلاج في مستشفيات القطاع بحاجة إلى العديد من الأجهزة والمعدّات الطبية، والكثير من أصناف الدواء المفقودة بغزة".
وأوضح حسنين حجم معاناة الطواقم الطبية من تراجع الإمكانيات العلاجية في مستشفيات غزة، كنقص الأدوية والأدوات الطبية والأجهزة والمعدات اللازمة بسبب الحصار؛ بما لا يمكّنهم من تقديم واجبهم الطبي تجاه المرضى، لا سيما مرضى السرطان والدم والقلب والآلاف من جرحى الحرب.
لقمة العيش.. صراع شاقّ
وليس القطاع الصحي باستثناءٍ في قطاع غزة؛ حيث لم يكن الوضع الغذائي في القطاع المحاصر بعيدًا عن تفاصيل الحياة المعقدة أو أفضل حالاً من باقي المناحي الأخرى؛ حيث يخوض الفلسطينيون صراعًا شاقًّا من أجل توفير لقمة العيش وغذاء أطفالهم؛ بسبب شحّ المواد الغذائية وحليب الأطفال على وجه الخصوص؛ من جرّاء الحصار المشدد المفروض على القطاع منذ ما يقرب من 3 أعوام والإغلاق المتواصل لكافة المعابر الحدودية.
ويعتمد الغزيُّون بشكل رئيسيٍّ وكليٍّ على المساعدات والجمعيات الخيرية في الحصول على ما يسدّ رمق أبنائهم في ظل الحصار الخانق.
ويقول أحد المواطنين: "أعول عشرة أفراد، ومنذ بداية انتفاضة الأقصى، وأنا أعيش على مساعدات وكالة الغوث (الأونروا)، وإعانات برامج البطالة التي تديرها وزارة العمل أو البلدية".
وأضاف بصوتٍ يملؤه المرارة: "لكن الوضع يزداد سوءًا، ونأمل أنْ تزيد الجهات المانحة لمساعدتها، بدلاً من أنْ تسهم في تجويعنا من خلال الحصار المفروض على غزة".
ولم يفلح المواطن عماد الشيخ (27 عامًا) على مدار يومين متتاليين من التعب والإرهاق في الحصول على عبوة حليب لسد رمق طفله الصغير.
ويقول والد الطفل ذي التسعة شهور ل(إخوان أون لاين): "مش عارف شو أعمل، طفلي يبكي ليل نهار من الجوع، وأنا أبحث عن حليبٍ دون جدوى"، ويسأل: "أين المساعدات التي تحتجزها وتمنعها عنا السلطات المصرية، ولماذا؟!".
ويشير الصيدلاني عمر أحمد إلى أنَّه تمّ منع دخول أنواعٍ عدةٍ من الحليب الأجنبي منذ عدة أشهر؛ رغم أنها الغذاء الوحيد للأطفال دون ستة شهور أو سنة.
وأضاف في سياق حديثه مع أحد المواطنين داخل إحدى صيدليات القطاع الخالية: "حليب الأطفال المفقود من الصيدليات تعتمد عليه معظم العائلات؛ خصوصًا لدى الأمهات العاملات وغير المرضعات"، وأكد أنَّ نقص الحليب يشكِّل خطرًا كبيرًا على البيئة الصحية للأطفال لمن لا يتلقوْن الرضاعة الطبيعية.
لا لحوم.. لا دواجن.. لا مياه..!!
الكبار أيضًا يعانون في قائمة طعامهم وليس الأطفال فحسب؛ حيث أضحت موائد الأسر الفلسطينية في غزة تفتقد للحوم والدواجن بسبب قلتها وارتفاع أسعارها بعد الحرب الأخيرة، ومنع دخول أي من البضائع من جرّاء الحصار المشدّد.
ويشير المواطن أبو أحمد الأقرع إلى أنَّ اللحوم والدواجن "أصبحت أُمنيّة الكثيرين" في غزة في ظل الحرمان وارتفاع الأسعار، وقال: "لم أستطع شراء كيلو من اللحم الطازج أو الدواجن منذ انتهاء الحرب على قطاع غزة، لقد أصبح الحصول على لحم طازج أو دواجن حية أمنيةً صعبة التحقيق لدى الكثير من المواطنين الغزيين".
إلى ذلك أفضت الممارسات الصهيونية مؤخرًا إلى حرمان عشرات الآلاف من الفلسطينيين في قطاع غزة من المياه النقية والكهرباء؛ حيث تشير التقارير إلى استمرار معاناة الغزيِّين من أزمة توفير المياه الضرورية، والناجمة عن تدمير البنية التحتية خلال الحرب الأخيرة على القطاع، ونفاد الوقود اللازم لتشغيل المولِّدات.
الغاز.. يا فرحة ما تمّت!
"يا فرحة ما تمّت!" هذا هو لسان حال الكثير من الغزيِّين الذين لم يحالفهم الحظ والنصيب في الحصول على أنبوبة غاز بعد أنْ تنفَّسوا الصعداء، وتسارع السرور إلى قلوبهم في أعقاب عودة بائعي الغاز إلى التجوال مجدَّدًا في شوارع غزة وهم يصدحون "غاز.. غاز"؛ حيث سرعان ما عادت الأزمة من جديد في أعقاب قرار سلطات العدو الصهيوني بإغلاق المعابر وتخفيض الكميات المدخلة للقطاع.
ودفعت الأزمة مجدَّدًا العديد من الأسر الفلسطينيية إلى العودة للوسائل البدائية، وكان في مقدمتها "بوابير الجاز" وأفران الطين.
المواطنة أم رفعت "من سكان غزة" لم تتمكن كغيرها من المواطنين من تعبئة أنبوبة غاز واحدة، مضيفة وهي في حسرة: "نستعين بالفرن أو القرص الكهربائي، وقد يحتاج الطعام ساعات طويلة في الطهي بسبب ضعف الكهرباء".
وكانت سلطات الاحتلال الصهيونية قد سمحت بإدخال 1140 طنًّا من الغاز المنزلي في شهر يناير، وفي فبراير 1250 طنًا، وفي شهر مارس 3000 طن، لكنها سرعان ما تراجعت وقرَّرت تخفيض الكميات.
وتشير أم رفعت إلى أنّ من يمتلك أنبوبة غاز في هذه الأيام كأنَّه يمتلك "قصرًا من ذهب"؛ بسبب المعاناة التي يعيشها المواطنون الغزيُّون، وتابعت: "على الرغم من مرضي بالسكري وإعيائي الشديد؛ إلا أنَّني بقيت ساهرةً حتى الصباح ذات مرة؛ على أمل أنْ أتمكن من تعبئة الأنبوبة، ولكن دون جدوى"!.
أُسَر في العراء
وبالإضافة إلى ذلك ما زالت المئات من الأسر الغزية تفترش الأرض وتلتحف السماء في العراء؛ بانتظار بدء تنفيذ العرب والمجتمع الدولي وعودَه بإعادة إعمار غزة، بعد ما طاله من دمارٍ إبان الحرب التدميرية الأخيرة التي شنّها الكيان الصهيوني على القطاع.
وبجانب تجميد هذه الوعود فإنَّ الحكومة الصهيونية تمنع دخول مواد البناء إلى قطاع غزة، وربطت ذلك بالإفراج عن الجندي الصهيوني الأسير الذي تحتفظ به المقاومة الفلسطينية "جلعاد شاليط".
المواطن أحمد السموني يسكن في منزلٍ آيلٍ للسقوط بسبب القذائف الصهيونية، ولا يستطيع ترميمه بسبب انعدام مواد البناء من إسمنت وحديدٍ وغيرهما في غزة، وينتظر السموني بفارغ الصبر إدخال الإسمنت وباقي مواد البناء لتحقيق حلمه بترميم المنزل، مشيرًا إلى أنَّه يواجه ظروفًا معيشية صعبة بسبب ذلك.
وتسكن معظم العائلات المشرَّدة بسبب الحرب الأخيرة في منازل مؤجرة أو في خيام للجوء، لكنهم يعلمون أن مشكلاتهم لا يمكن أن تحلَّ إلا عبر تفاهم سياسي مع سلطات الاحتلال، وهو ما قد لا يتحقق خلال أسابيع.. أو حتى شهور.