مولدافيا تقطف ثمار حرب القوقاز عبدالجليل المرهون هل قطفت مولدافيا ثمار حرب لم تخضها؟ أجل، ربما بدا الحال هكذا. مناسبة هذا التساؤل هو إطلاق موسكو، في الأيام الأخيرة، ما وصف بأنه "تحرك إضافي" لحل النزاع في إقليم بريدنيستروفيه المولدافي، الذي أعلن استقلاله، من جانب واحد، في مطلع تسعينات القرن الماضي. ويجسد التحرك الروسي هذا إحدى النتائج السياسية المبكرة لحرب القوقاز، وهو يمثل صورة مقابلة للاعتراف باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية فالروس يبحثون اليوم عما يظهرهم بمظهر الحريص على استقرار الدول المجاورة، وحل النزاعات القائمة فيها بالطرق السلمية، بعيداً عن منطق القوة المسلحة. ولقد بدا إقليم بريدنيستروفيه Pridnestrovie المولدافي أقصر الطرق للوصول إلى هذا الهدف. لقد أعلنت "جمهورية بريدنيستروفيه المولدافية"، وعاصمتها تيراسبول Tiraspol ، في العام ،1992 في أراضي عدد من المناطق المولدافية، الواقعة على الضفة الشرقية لنهر الدنيستر. ويتشكل سكان جمهورية مولدافيا، الواقعة بين رومانيا وأوكرانيا، من أغلبية رومانية، حيث كانت هذه الدولة تحت سيطرة الجار الروماني لفترات مختلفة من التاريخ. بيد أن سكان المناطق الواقعة شرقي نهر الدنيستر ينحدرون في الغالب من أصول روسية وأوكرانية وبلغارية. وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، واستقلال مولدافيا، طرح بعض الراديكاليين المولداف فكرة الاتحاد مع رومانيا، الأمر الذي أخاف الأقلية ودفعها للمطالبة باستقلال مناطقها. وهنا دارت الحرب في إقليم بريدنيستروفيه، حيث خسرتها سلطات مولدافيا، بعد أشهر من المعارك الضارية. وقد اتهم الغرب روسيا، قائلاً إنها هي من قررت في واقع الأمر نتيجة الحرب. وعلى الرغم من ذلك، فقد نصت اتفاقية وقف إطلاق النار، التي أبرمت في العام ،1992 على وجود عسكري روسي في الإقليم، يُقدر حالياً بنحو ألف وأربعمائة جندي. في الأصل، كان يرابط في مولدافيا الجيش السوفييتي الرابع عشر. وقد أعلنت روسيا في العام 1991 أن بعض وحداته ستبقى في إقليم بريدنيستروفيه "لضمان الحماية الآمنة لمخازن السلاح" الروسي هناك. وساد القلق في الدول المجاورة، بشأن ما قد يؤول إليه وضع هذه المخازن، وقد عبر عن ذلك وزير الخارجية الروماني، في أكتوبر/ تشرين الأول ،2005 بالقول إنه في حال وقوع انفجار في مستودعات الأسلحة والذخائر الروسية، في بريدنيستروفيه، فسوف يظهر خطر "حرب نووية مصغرة". وبالعودة للتحرك الدبلوماسي الجديد، فقد صرح الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف، أنه "من المناسب اليوم بحث مشكلة بريدنيستروفيه". وأن هناك "فرصاً جيدة" لحل الأزمة. وقال ميدفيديف إن "جمهورية بريدنيستروفيه المولدافية" تعد "حالة مغايرة"، قياساً بما كانت عليه الأوضاع في جنوب القوقاز. وجاء تصريح ميدفيديف بعد لقائه، في مدينة سوتشي الروسية، الرئيس المولدافي، فلاديمير فورونين، في 25 أغسطس/آب الماضي. وفي الثالث من سبتمبر/أيلول الجاري، أعلن رئيس "جمهورية" بريدنيستروفيه، أيغور سميرنوف، رفعه الحظر على المفاوضات مع السلطات المولدافية. وأوضح سميرنوف أنه قام بهذه الخطوة فور اجتماعه مع ميدفيديف. وقال إنه تم الاتفاق أثناء اللقاء مع الرئيس الروسي، على عقد اجتماع ثلاثي، بريدنيستروفي - مولدافي - روسي، وإطلاق المفاوضات الأولية الخاصة بالتسوية. وفي الرابع من سبتمبر/أيلول، نقلت تقارير روسية عن مصادر رسمية "تأكيدها" أن موسكو لن تعترف باستقلال بريدنيستروفيه، بأي حال من الأحوال. ومن المقرر، في السياق ذاته، أن يعقد في العاصمة النمساوية فيينا، خلال النصف الأول من هذا الشهر، لقاء بين الوسطاء الدوليين، المعنيين بعملية التسوية في بريدنيستروفيه، سوف يضم ممثلين عن كل من روسيا وأوكرانيا والولاياتالمتحدة، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا. وكانت المفاوضات، التي يرعاها الوسطاء الدوليون، قد توقفت منذ العام 2006. ويرى قادة إقليم بريدنيستروفيه أنه بات من الضروري عقد اتفاقية جديدة مع سلطات مولدافيا، تشمل "ضمانات أمنية"، وذلك أخذاً في الحسبان التجربة التي مرت بها أوسيتيا الجنوبية. ويطالب هؤلاء بزيادة القوات الروسية في الإقليم، لتصل إلى ثلاثة آلاف عنصر. ويرون أن ذلك "لا يتنافى" مع الالتزامات الدولية، التي نصت عليها اتفاقية العام 1992. ويرى الغرب أن الصيغة المعدلة لمعاهدة الحد من القوات التقليدية في أوروبا (من المحيط الأطلسي إلى سلسلة جبال الأورال) تلزم روسيا سحب قواتها من كل من جورجيا ومولدافيا. وترفض دول الأطلسي المصادقة على المعاهدة "ما لم تسحب روسيا قواتها من إقليم بريدنيستروفيه". وهو الأمر الذي تعارضه روسيا. وبدورها طالبت الولاياتالمتحدة "بالاستئناف الفوري" للمحادثات الخاصة ببريدنيستروفيه. وقال وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية، نيكولاس بيرنز، إنه ينبغي على منظمة الأمن والتعاون في أوروبا "دعم خطوات نزع السلاح الأحادية الجانب" من قبل مولدافيا، والمطالبة بتخفيضات مماثله من جانب إقليم بريدنيستروفيه. وأشار بيرنز إلى أن الولاياتالمتحدة لا تزال تدعو إلى انسحاب الجيش الروسي من الإقليم. ومن جهته، علق دانيال فريد، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون أوراسيا، على الوجود الروسي في بريدنيستروفيه قائلاً "إذا كانت هذه من عمليات حفظ السلام، فقد ينبغي علينا أن نتدارس كيف يمكن إضفاء صفة مؤسساتية لائقة عليها. ولربما قد يرغب الروس في أن يكونوا جزءاً منها". وفيما بدا أنه صورة للتجاذبات الحادة بين روسيا والغرب، على خلفية توسع حلف الأطلسي، خيّرت موسكو مولدافيا بين عضوية الحلف وبين المحافظة على إقليم بريدنيستروفيه. ولم يكن أمام السلطات المولدافية إلا أن تخلت عن رغبتها في الالتحاق بالأطلسي، على أمل التوصل إلى تسوية مرضية في الإقليم. وتعتقد بعض التقارير الغربية أن السبب الحقيقي لبقاء القوات الروسية في مولدافيا هو منع توسع الأطلسي. وعلى الرغم من كل ذلك، يرى بعض خبراء الأطلسي أن الصراع في مولدافيا قد يمثل فرصة حقيقية "لإطلاق أول عملية حفظ سلام" تشارك فيها كل من روسيا والحلف على قدم المساواة. وبحسب هؤلاء، فإن هذه العملية لا تتطلب سوى جيش محدود القدرات، وقوة شرطة لا يتجاوز عدد أفرادها بضع مئات. وما يمكن قوله خلاصة، هو أن قطار التسوية في الإقليم الأوروبي، المعلق السيادة، قد انطلق اليوم، مستنفذاً وهج الحرب في القوقاز، ومرتكزاً على تداعياتها السياسية عميقة الأثر. عن صحيفة الخليج الاماراتية 13/9/2008