د. الصاوي حبيب أما طبيبه فهو كاتب هذه السطور وكان طبيبه في سنواته الأخيرة وكانت وفاة عبد الناصر غير المتوقعة والمبكرة صدمة قاسية للرأي العام في مصر والعالم العربي. جعلتني أشعر بضرورة نشر تفاصيل مرضه للرأي العام بعد وفاته مباشرة.
أما كاتبه فهو الأستاذ هيكل اكبر كتاب مصر والعالم العربي ولم أكن أعرف أحدا في عالم الصحافة في ذلك الوقت غيره وعرضت عليه شرح تفاصيل مرض عبد الناصر ورحب بالفكرة واستقبلني في مكتبه بالأهرام لنحو ساعتين.
رويت له فيها وقائع مرض عبد الناصر من يونيو1967, كما شرحت وقائع اليوم الأخير إلي ساعة وفاته, وكان الحضور في المشهد الأخير أ.د منصور فايز وأ.د زكي الرملي, بالإضافة إلي.
وجميع من ورد ذكرهم كحضور حضروا بعد وفاته وكتب الأستاذ هيكل كل ما ذكرت وأضاف اليه بحسه السياسي والصحفي وصف الحالة السياسية ومسرح الأحداث .
وذلك في المقالتين الرئيسيتين في الأهرام يوم الجمعة1970/9/28( ملحمة الصراع مع الالم) والأسبوع الذي يليه1970/10/5 وفي الأربع والعشرين ساعة الأخيرة, واذكر انني اتصلت به معاتبا علي وصفي بالطبيب المقيم بدلا من الخاص.
اثارت الوفاة المفاجئة والمبكرة لجمال عبد الناصر كثيرا من الشكوك حول وفاته وهي جميعا عن غير علم ودون دليل, فقيل انه تم اعطاؤه حقنة في الوريد أودت بحياته, وقيل ان الطبيب الذي اسعفه طبيب أطفال, وذكر أيضا عدم وجود طبيب قلب وقيل حدثت له غيبوبة في المطار.
وكل هذا لم يحدث وقيل إنه مات نتيجة تدليك ساقه بالسم, وهذا لم يحدث وقيل انه تم تسميمه بالمياه الطبيعية في تسخالطوبو وهذا مجرد افتراء, وقيل إنه توفي نتيجة غيبوبة نقص السكر في الدم, وقيل انه كان مريضا بالسكر البرونزي وهذا أيضا غير صحيح.
وقيل ان خبير سموم امريكيا كان موجودا في المطار عند مغادرة الوفد الكويتي ووجود خبير أغذية أو سموم في وفد اجنبي لرئيس دولة ظاهرة طبيعية.
وعندما أصبحت هذه الشكوك حول وفاة عبد الناصر معلنة في كل مكان بادرت بمقابلة الأستاذ هيكل لاستشارته في إمكان نشر الملف الصحي لعبد الناصر للرد علي هذه الشكوك, فذكر لي انه لم يحدث من قبل ان اذاع طبيب خاص لرئيس دولة ملفه الصحي.
وقال لي إننا لانعرف مايمكن ان تأتي به الأيام أو ان أصادر التاريخ بذلك واستدرج قائلا ان الوحيد الذي نشر الحالة الصحية لزعيم كان يعالجه كان طبيب ونستون تشرشل الذي نشر مذكراته الشخصية بما في ذلك فترة علاجه لتشرشل, وبطبيعة الحال لم أكتب في هذا الموضوع إلي ان أصبح لابد ما ليس منه بد.
فأنا شاهد عيان والموضوع طبي أعرف تفاصيله عن قرب, فأصبح السكوت خطيئة وقول الحق فريضة وعندما حصلت علي إذن نقيب الأطباء الدكتور حمدي السيد نشرت ما أعرفه عن تفاصيل مرض عبد الناصر في سنواته الأخيرة وعن وقائع اليوم الأخير في حياته.
وكنت ومازلت أقول ان الله سبحانه وتعالي خلق لنا عينين في الأمام لكي ننظر للأمام, واذا كان يريد ان ننظر للخلف لخلق لنا عينين في الخلف, والمطلوب ان نطوي صفحة الأمس ونقول: غدا يوم آخر وننظر للأمام.
ولكنني فوجئت بالأستاذ هيكل يعلن علي منبر من لا منبر له أن كثيرا من الشكوك ذاعت عن وفاة عبد الناصر وانه لايصدقها, ولكنه أيضا لم ينفها, ومع ذلك اختار واقعتين بالتحديد ليذكرهما بالتفصيل.
* الأولي: حديث مسجل بين مسئول إسرائيلي وآخر امريكي بالسفارة الامريكية بالقاهرة, وهو مسجل بواسطة المخابرات المصرية جاء فيه بالتحديد ضرورة التخلص من عبدالناصر بالسم أو بالمرض وهذا التسجيل سمعه عبدالناصر, وبطبيعة الحال لابد ان يكون قد راجع اجراءات آمنه وهو الذي عاش حياته كلها ورأسه بين يديه.
ولا غرابة في الحديث فقد كنا في حالة حرب فعلا مع إسرائيل, ولذلك فهو حديث بلا دلالة عملية بل حديث عادي في ظروف حرب, والقتل ليس بالنية ولكن بالوصول إلي جمال عبد الناصر وهو لم يحدث.
* أما الواقعة الثانية: فهي ان الرئيس السابق أنور السادات نحي السفرجي الخاص بعبد الناصر وصنع له فنجان قهوة بنفسه عقب انفعال طارئ, فهذا الحدث إن كان صحيحا فهو تصرف كريم من زميل وصديق يطفئ به النار علي الانفعال, أما ان يتوفي عبد الناصر بعد ثلاثة ايام, فهذا حدث لا شأن له بفنجان القهوة.
اما ان تكون هناك شائعة ان هذا الفنجان كان قد وضع به سم يقتل بعد ثلاثة أيام دون أي دلائل ودون أن يري أحد اي شيء فهذا خيال وافتراء لايقوم عليه أي دليل وحتي ان ذكر ذلك علي انه شائعة فان ترديد الشائعة نشر لها ومن شخص في قامة هيكل ومن منبر من لامنبر له, فهو نشر لها علي مستوي العالم.
وعلي الرغم من ان الأستاذ هيكل اعلن انه لايصدق, ومن المستحيل ان يفكر في حدوثها فإن ذكر استحالة تصديقها وتعمد نشرها علي الملأ ما هو إلا درس لأي صحفي كيف ينشر مايريد دون ان يذهب إلي المحكمة. وعموما فان الأستاذ هيكل لم ينف الشك.
كما ان لدي الاستاذ هيكل عوامل ذاتية تضع محاذير امام آرائه الشخصية في أنور السادات فقد أقصي في عهده وأضير معنويا بل ووضع في السجن.
وفي الحقيقة انه لايجوز لأحد ان يشك ولو للحظة ان هناك من كان يفكر في تركة عبد الناصر ممن كانوا حوله, فقد كانت مثقلة بالمتاعب والمسئوليات الجسام, وأزعم ان من كانوا حوله كانوا سعداء لانه يحمل المسئولية عن الجميع.
أشار الأستاذ هيكل إلي انه يشعر في قراره نفسه ان الرئيس جمال عبد الناصر كرئيس دولة لم يحظ بالرعاية الصحية الواجبة لشخص مثله وضرب مثلا سفره هو لافضل أماكن العلاج في الولاياتالمتحدة.
وفي الحقيقة ينبغي ألا نقارن عصر جمال عبد الناصر بالعصر الحالي, فمعدل الوفيات في ذلك الوقت كان15,4 في الألف ومعدل وفيات الأطفال الرضع145 في الألف ومتوسط الأعمار58 للذكور و60 للإناث وفي عام2006 أصبح معدل الوفيات6,3 في الألف ومعدل وفيات الأطفال 33 في الألف ومتوسط العمر69,2 للذكور و73,6 للإناث.
وعندما توفي عبد الناصر لم يكن في مصر عناية مركزة عدا واحدة تحت الإنشاء في الإسكندرية وأذكر انها لو كانت موجودة لم تكن تجدي في حالة الصدمة القلبية التي توفي بسببها عبد الناصر والتي يتوقف فيها 40% من عضلة القلب نتيجة انسداد شرايين القلب مما يفقد القلب لوظيفته كمضخة.
ولم يكن في عصر عبد الناصر زراعة أعضاء ولا امكانية لعمل خريطة للجينوم البشري يستطيع كل انسان ان يعرف منها مايمكن ان يصيبه من أمراض في المستقبل.
وفي الحقيقة أن حالة عبد الناصر الصحية لم تكن تحتاج لسفره للخارج للعلاج فلم يكن محتاجا لاي جراحات, كما ان مرضه كان واضحا البول السكري, ارتفاع ضغط الدم, ارتفاع الكولسترول, انسداد في شرايين القلب وجميعها أمراض تعالج بتغيير نمط الحياة مع العلاج الدوائي .
ومئات الألوف يعانون منها واكثرهم يعيش بعد الستين, ولكن الوفاة المبكرة والمفاجئة لجمال عبد الناصر كانت نتيجة وجود عامل وراثي لم يظهر في حينها إلي جانب العوامل البيئية.
في الحقيقة ان القول انه لم يحصل علي رعاية طبية كافية يجافي الحقيقة فقد زاره كثير من الأطباء الأجانب من كل الجنسيات, علاوة علي الأطباء المصريين ومن هؤلاء الأطباء الأجانب د. بولسون( دانمركي) د. فرجسون( بريطاني) د. هاورد هانلي( بريطاني) .
د. هوبارد من البحرية الأمريكية د. رفسوم( نرويجي) د. جرستن براند( نمساوي) د. ارنسبت فايفر( الماني) د. شازوف من الاتحاد السوفيتي, فضلا عن الأطباء الروس الكبار الذين قادهم وزير الصحة الروسي للكشف عليه في روسيا.
بعيدا عن الشكوك التي ليس عليها دليل, فأرجو من كل من يقرأ هذا المقال طبيبا كان أو لم يكن أن يدلني علي تفسير لهذه الحقائق!
كان جمال عبد الناصر أكبر أشقائه من الأم والأب.
توفي جمال عبد الناصر عن52 سنة بالأزمة القلبية والسكر.
توفي بعده شقيقه الليثي عن نفس السن وبنفس المرض.
ثم توفي بعده شقيقه الثالث عز العرب عن نفس السن وبنفس المرض.
أما شقيقه الرابع شوقي فتوفي بعد الثمانين ولكن ابنه جمال أجريت له جراحتان في القلب بسبب الشريان التاجي.
تزوج والد جمال( الحاج عبد الناصر حسين) بعد وفاة والدة جمال من زوجة أخري وأنجب خمسة بنين وسيدة عاشوا حياة طبيعية, وان كان أحدهم أو اثنان منهم أصيبا بأورام.
توفي والد جمال في سن الثمانين( أكتوبر1968).
توفيت والدة جمال عبد الناصر( السيدة فهيمة حماد) في سن الثلاثين وهي تضع ابنها شوقي أو بعد ولادته بيوم.
توفي خال جمال عبد الناصر( إبراهيم حماد شقيق السيدة/ فهيمة) في الخمسينيات من عمره بأزمة قلبية.
توفي خاله الآخر( أحمد حماد) بعد المعاش في ديسمبر1967 ولكن ابنه إسحاق توفي في الأربعين بأزمة قلبية.
هذه الحقائق ليس لها من تفسير سوي ان العامل الجيني الوراثي إلي جانب العوامل البيئية كانت السبب في الوفاة المبكرة والمفاجئة لرئيس الجمهورية جمال عبد الناصر.
كما كان السبب في وفاة والدته وشقيقيه وخاله الأكبر وابن خاله الأصغر, وجميع هؤلاء مواطنون عاديون تساووا مع رئيس الجمهورية في النهاية.
فهل آن الأوان لأن يسترد الطبيب المصري ثقة مواطنيه بعد أن هجره الأستاذ هيكل وذهب للعلاج في الخارج وأعلن ذلك علي العالم كله.
*طبيب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر جريدة الأهرام 22/9/2010