أبعاد وخلفيات الغزو الروسي لجورجيا! فريد حياة مع قيام القوات الروسية بنهب واحتلال دولة مجاورة، وتجنيد المدنيين الجورجيين الذين يواجهون خطر الموت أثناء سيرهم في شوارع مدينتهم، أصبح من الشائع في موسكو أو واشنطن توجيه اللوم للولايات المتحدة. وقد عادت روسيا إلى الجانب المظلم، كما يمكن القول بحسب الرواية الروسية بأن موسكو قد نهضت بنفسها، في رد فعل غير مفهوم على الازدراء الأميركي، وفقاً لوجهة النظر الروسية. ويجب أن يتعلم الرئيس الأميركي الجديد الدرس من هذا أن ثمة حدود للطريقة التي يمكن أن يتم من خلالها الضغط على روسيا. ويستشهد هذا السرد للاستفزاز الأميركي بقائمة طويلة من المظالم، ولكن الخطيئة الأصلية أو الأساسية التي ارتكبتها واشنطن من وجهة النظر الروسية هي توسيع عضوية حلف الناتو. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، شجعت الولاياتالمتحدة الدول الحرة الجديدة الموجودة في وسط وشرق أوروبا للانضمام إلى الحلف العسكري الذي كان الهدف الأساسي من إنشائه هو احتواء الاتحاد السوفيتي السابق. وقد كرهت روسيا هذه الفكرة منذ البداية، وكان يتعين على الولاياتالمتحدة أن تعرف أن موسكو سوف تعاقب هذه الدول بمجرد استعادتها لقوتها. ولكن هل كان هذا الأمر حقاً شيء تم لصالح أو حتى ضد روسيا؟ وكانت الرؤية التي تقف وراء توسيع عضوية حلف الناتو إبان فترة حكم كل من الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون والرئيس الحالي جورج بوش هي ظهور أوروبا موحدة وحرة. وتدلت "جزرة" عضوية حلف الناتو، قبل كل شيء لتخفيف أخطار المرحلة الإنتقالية. وتعين على الدول المتقدمة لشغل عضوية الحلف أن تعد بالسيطرة المدنية على قواتها المسلحة والمعاملة العادلة والنزيهة للأقليات العرقية واحترام الحدود الدولية. وبالنظر إلى الأشياء الفظيعة التي كان يمكن أن تصاحب انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك حلف وارسو، وتشيكوسلوفاكيا والمنطقة التي عرفت في الماضي القريب باسم يوغوسلافيا على نطاق أوسع، كانت هذه السياسة ناجحة بشكل رائع. وبالطبع، امتلكت الدول المتقدمة بطلب الانضمام إلى عضوية حلف الناتو حافزاً إضافياً؛ حيث رغبت هذه الدول في التوصل إلى سياسة ضمان ضد إمكانية عودة روسيا في النهاية إلى شكلها القديم وسعيها لفرض هيمنتها على تلك الدول الناشئة. وتعاطفت الولاياتالمتحدة مع دول الاتحاد السوفيتي السابق، ولكنها كانت تأمل أيضاً في تعاون روسيا مع الدول الأعضاء في حلف الناتو، وانضمامها إلى عضوية الحلف في يوم ما، وأن تدرك موسكو الفوائد المحتملة للعيش كجزء في منطقة جوار تتمتع بالرخاء والتجارة الحرة والديمقراطية. ولم يكن يبدو من قبيل الجنون أن تأمل القيادة الأميركية في أن الروس سوف يلاحظون بأنفسهم كيف أصبح الألمان أفضل في الوقت الحالي، على سبيل المثال، وهم يعيشون في سلام يحظى بالاحترام مع دول جوار أصغر مثل الدنمارك وبلجيكا بشكل يفوق طريقة العيش عندما سعت ألمانيا إلى بسط سيطرتها على قارة أوروبا. ولكن فلاديمير بوتين، الذي قدم إلى السلطة في عام 2000 كان يمتلك رؤية مختلفة عن وضعية روسيا في العالم. وكان الصحفي الأميركي المخضرم ستروبي تالبوت قد أشار خلال الأسبوع الماضي إلى أن روسيا "كانت تجنح إلى الشعور بالأمن المطلق، فقط عندما كانت الدول المحيطة بها على وجه الخصوص تشعر بغياب الأمن المطلق. وذكر تالبوت، الدبلوماسي الأميركي السابق أن بوتين سقط بشكل قوي في هذا التقليد. وفي الداخل، سحق بوتين المعارضة السياسية ووسائل الإعلام المستقلة. ووضع بوتين الثروات المعدنية لروسيا تحت سيطرة الدولة مرة أخرى، وبعد ذلك بدأ في استخدام هذه الثروات، وخصوصاً النفط والغاز الطبيعي لفرض النفوذ الروسي في الخارج. ونظر بوتين إلى مساعي توسيع حلف الناتو على أنها إهانة لروسيا، ليس لأنه تخيل بأن إستونيا أو جورجيا أو حتى حلف الناتو نفسه سوف يهاجم روسيا في يوم من الأيام، ولكن لأنه عقد من توجه روسيا نحو الهيمنة على منطقة أوراسيا. وبسبب رؤيته للعالم على أنه ساحة للصراع بين عوالم التأثير، لم يكن بمقدور بوتين أن يتخيل بأن قادة الدول التي لا تتمتع بعضوية حلف الناتو قد ينظروا إلى الأشياء بشكل مختلف. لذا فإن توسيع عضوية حلف الناتو يمثل إهانة فقط لروسيا، وهي الفكرة التي سوف يجدها الغرب غير مقبولة على أي حال. ولكن، حتى وإن لم تسعى الولاياتالمتحدة لتطويق وخنق روسيا، ألن يترك هذا الأمر حساسية على كبرياء روسيا المجروح؟ وهل كان يمكن أن تتطور روسيا بشكل أكثر ديمقراطية إذا كانت واشنطن قد راعت رغبات الدول الأخرى بشكل أكبر؟ ربما يكون هذا الأمر صحيحاً، ولكن ليس ثمة الكثير من الأدلة المؤيدة لهذه النظرية. وقد أمضى الغرب قدراً كبيراً خلال السنوات ال 17 الأخيرة في قلق بشأن وضعية روسيا، وتوسيع عضوية الدول السبع الصناعية لكي يتغير اسمها إلى مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى، على سبيل المثال، ولم يتضح بعد ما إذا كان مثل هذا العلاج قد حقق أي أثر من عدمه. ويمتلك بوتين أسبابه لخنق الديمقراطية، ولاقتباس أقوال تالبوت مجدداً وهي: "كلما كانت روسيا أكثر إستبداداً وشمولية، كانت أكثر عدوانية في التأكيد على مصالحها بالخارج". والدائرة غير الصحية معروضة هنا الآن. وعند الاستماع فقط إلى تفاصيل "الإبادة الجماعية" التي حدثت في جورجيا والاعتداء على موظفي القنوات التليفزيونية التي تسيطر عليها الدولة، لا يمكن للروس أن يفهموا أسباب الانتقاد الغربي للتصرفات الروسية إلا كدليل إضافي على غياب العدالة، وهو الشيء الذي يمكن أن يستخدم لتبرير السلوك الأكثر عدوانية. ولكن، ماذا تعني كل هذه الأمور للرئيس الأميركي المقبل؟ الإجابة هي أن الرئيس الأميركي القادم سوف يتعين عليه أن يتعاون بكل الوسائل الممكنة مع روسيا، وأن يبقى منفتحاً على فكره أن روسيا يمكن أن تنضم في يوم من الأيام إلى عضوية حلف الناتو والترتيبات الدولية الأخرى على أساس الاحترام المتبادل. ولكن إذا كان الأمل يكمن في أن التفاهم الأكبر واحترام الطموحات الاستعمارية لروسيا سوف يروض هذه الطموحات، فإن القياسات التاريخية بهذا الخصوص ليست مشجعة. نشر في صحيفة " واشنطن بوست " ونقلته صحيفة " الوطن العمانية " 20/8/2008