تسييس الألعاب الأولمبية: من برلين إلى بكين! سليم نصّار في تمام الساعة الثامنة وثماني دقائق من مساء أمس الجمعة الموافق 8/8/2008، أعلن الرئيس الصيني هو جنتاو افتتاح الألعاب الأولمبية في بكين. ولم يكن قرار تحديد موعد الافتتاح عشوائياً، وإنما حدد في هذا التاريخ المعين لأن الشعب الصيني يتفاءل بالرقم ثمانية ويعتبره جالباً للحظ والسعادة، خصوصاً أن رقم ثمانية، حسب اللغة الصينية المنطوق بها في غالبية الأقاليم (ماندرين) يمثل رقم الحظ أو البحبوحة (BA). ومن يعرف ولع الشعب الصيني بألعاب القمار، يفهم إلى أي حد يرتبط المزاج الثقافي ببعض الأرقام الخاصة كالرقم ثمانية. وذكرت وكالة الأنباء الصينية الرسمية «شينغوا» أن المستشار ماو يولين دعا إلى جعل الثامن من آب (اغسطس) اجازة رسمية في البلاد يحتفل بها المواطنون على امتداد السنوات المقبلة، وبرر اقتراحه بالقول إن تجديد هذه الذكرى يُعتبر تخليداً للأولمبياد ولهذه الدورة بالذات. لماذا؟ لأن اللجنة المركزية في الصين لم تخف حرصها على استغلال دورة الألعاب الأولمبية من أجل تعزيز مكانتها الدولية. لذلك وظفت هذه المناسبة العالمية كأداة دعائية تساعد الحكومة على تحسين سمعتها في الخارج بحيث تنطبع في أذهان ملايين المشاهدين صور الاحتفالات المثيرة. أي الاحتفالات التي بدأت تكاليفها بأربعين بليون دولار، ثم انتهت بموازنة مفتوحة، والسبب أن هاجس المنافسة الرياضية والترفيهية، طغى على كل هدف آخر. وعليه فرضت مظاهر الفخامة والضخامة استحداث تجهيزات جديدة وشقّ طرق جديدة وتوسيع شبكة قطارات الأنفاق، وبناء محطة خاصة للطائرات، وتأمين فنادق إضافية تتسع لنصف مليون زائر وتسعين شخصية رسمية. يعترف مؤرخو دورات الألعاب الأولمبية أن العالم لا يتذكر أكثر من مشاهد خمس دورات مميزة من أصل 28 دورة جرت في بلدان مختلفة، وربما كانت الدورة الأولى في فرنسا على عتبة القرن الماضي، هي الأكثر حضوراً في ذاكرة التاريخ الحديث، بعدما أعلن المربي والمؤرخ الفرنسي البارون بيار دو كوبرتان عن انشاء «اللجنة الأولمبية الدولية». واختار عيد الثورة الفرنسية - أي يوم 14 تموز (يوليو) 1900 - كي يطلق تلك التظاهرة الرياضية في باريس، ويعلن عن تأسيس أول «لجنة أولمبية عالمية». وكان من الطبيعي أن تهتم اللجنة بوضع المواصفات والمعايير المنظمة لشروط المنافسة بين الأندية. وعلى هذا نشأ مفهوم حديث عن الرياضة، مقتبس من روح العصر. وقد مهدت لقاءات الأندية إلى التقيد بقواعد اللعبة وقيمها الأخلاقية، خصوصاً بعد تطور وسائل النقل والمواصلات وتبلور وسائل الإعلام عبر الصحف والفضائيات. اختار الكاتب البريطاني ديفيد لارج دورة 1936 في برلين ليؤلف عنها كتابه الشهير بعنوان «ألعاب نازية». وركز في كتابه على الطريقة التي استغلها هتلر لإظهار عناصر التفوق التي ميزت العنصر الجرماني بحيث انقلب الاستعراض الرياضي إلى عرض عسكري. وذكر ما قاله وزير الدعاية غوبلز في حفلة الافتتاح من «أن هذا اليوم العظيم يمثل صورة النصر للمسألة الألمانية». ومثلما أثارت مسيرة الشعلة الأولمبية متاعب عدة عبر البلدان التي مرت بها قبل أن تستقر في بكين، هكذا أثارت الشعلة اضطرابات أمنية سنة 1936 قبل ايصالها إلى برلين. والمعروف أن ادولف هتلر هو الذي أحيا فكرة الشعلة الاغريقية التي حملها العداءون من اليونان ثم بلغاريا ثم يوغوسلافيا ثم هنغاريا. ولما بلغت مسيرة الشعلة فيينا، اندلعت حوادث عنف أوقعت اصابات كثيرة بين الشرطة والمشاغبين. وشن الألمان في حينه حملة إعلامية اتهمت اليهود الماركسيين بمسؤولية إثارة الاعتراض. والطريف أن الولاياتالمتحدة اختارت يهوديتين من اصل الماني (هيلين ماير وغريتل برغمان) كي تمثلا البلاد في برلين. وخشي هتلر من منعهما من الاشتراك خوفاً من مقاطعة الدول الأخرى. قبل أسبوع من إعلان افتتاح دورة بكين، أجرى الرئيس الصيني هو جنتاو لقاءات مع عشرين وسيلة إعلامية في قصر الشعب. وفي حديثه دعا الرئيس إلى عدم تسييس الألعاب الأولمبية، معتبراً أن ذلك يخالف روح الدورة الرياضية. وقال إن الشعوب الأخرى تملك وجهات نظر معارضة لمفاهيمنا وقيمنا، ولكن قواعد الألعاب تمنع التسييس لأن ذلك مخالف للروح الأولمبية وللتطلعات التي تتقاسمها شعوب العالم. وكان الرئيس الصيني بهذه التلميحات يشير الى المتاعب التي واجهتها مسيرة الشعلة الأولمبية وهي في طريقها الى بكين. فقد تعرضت لحملات قاسية في الإعلام الغربي، ركزت على حقوق الاقليات واقليم التيبت ومشكلة التلوث وحقوق الانسان. وانضم الى هذه الجوقة المخرج الأميركي ستيفن سبيلبرغ الذي اختارته لجنة التنظيم مستشاراً فنياً، فقدم استقالته بحجة أن الصين شريكة في مجازر دارفور. كيف؟ لأن الصين قدمت عشرة بلايين دولاراً كمساعدة لإعانة السودان على تخطي أزمته الاقتصادية، لذلك اعتبرها سبيلبرغ شريكة في احداث اقليم دارفور. وبحسب المطالب التي سجلتها لجنة التنظيم، فإن نصف عدد الصحافيين الذين وصلوا الى الصين تسللوا الى مواقع يحظر الدخول اليها لأسباب غير معلنة. ومعنى هذا أن هناك 15 ألف مراسل ومصور تلفزيوني توزعوا على الشوارع والمصانع، متجاهلين الألعاب واللاعبين الذين يزيد عددهم على 16 ألف رياضي ومدرب. واهتم مراسل ال «بي بي سي» بزيارة كاهن مسيحي وضع في الاقامة الجبرية بعدما رفض الانصياع لتحذيرات وزارة الداخلية بضرورة وقف حملة التبشير. وكان المشهد مضحكاً حينما ركز المصور على كبير المراسلين جون سمسون، وهو يصرخ أمام البوابة المقفلة وينادي على الكاهن الذي أطل من النافذة. وفي نهاية «المسرحية» طلبت السلطات من سمسون أن يحترم مهمته ويتوقف عن ملاحقة الكاهن الذي تعرض لمرات عدة لتهديد المواطنين. الحكومة الصينية تتهم الاستخبارات المركزية الأميركية بالتخطيط لافتعال التظاهرات التي جرت خارج حدود التيبت. كما تتهم الزعيم الروحي الدالاي لاما، بتمويل جماعته في حركة تحرير التيبت. وتدعي ايضاً أن هذه الاستخبارات تمول الاذاعة المشبوهة المعروفة ب «راديو آسيا الحرة». وحجتها أن المستفيد الأكبر من اندلاع العنف وانتشار الفوضى هو واشنطن. ذلك أن الاستخبارات المركزية الأميركية شنت سنة 1965 حملة واسعة ضد الشيوعيين الصينيين في التيبت، انتهت بسقوط مئات الضحايا وهرب الدالاي لاما مع مئة ألف مواطن. وعبر هؤلاء جبال الهمالايا الى الهند ونيبال. وأنشأت الاستخبارات معسكر تدريب لأنصار الزعيم الروحي في ولاية كولورادو الأميركية، وبقي هذا المعسكر ناشطاً الى حين إعلان وقف العمليات رسمياً سنة 1974. وترى واشنطن أن الصين تهدد نفوذها الاقتصادي والعسكري والسياسي في آسيا وافريقيا ودول اميركا اللاتينية. وهي تتهمها بالاحجام عن التعاون في الحرب ضد الإرهاب، وفي تمرير الأسلحة من غرب البلاد الى افغانستان ودول آسيا الوسطى. واستناداً الى هذه الخلفية، ترى بكين أن الحملات الإعلامية التي تتعرض لها عبر تغطية الألعاب الأولمبية، ليست أكثر من فرصة سانحة لتشويه سمعة أكبر دولة في العالم. قبل شهر تقريباً، أعلنت السلطات الصينية ضبط خليتين إرهابيتين من تركستان الشرقية، واحتجاز 45 مشبوهاً، ادعت أنهم كانوا يخططون لشن هجمات على فنادق السياح في بكين وشنغهاي. وذكرت ايضاً أن رجال الأمن احبطوا محاولة لتفجير طائرة ركاب وهي في طريقها الى بكين. كذلك اعتقلوا بضعة انفصاليين كانوا يخططون لشن هجوم على الألعاب الأولمبية، تماماً مثلما فعل الفلسطينيون في ميونيخ. المعارضة في اقليم شينغيانغ الحاضن لأكثر من 50 مليون مسلم يتكلمون التركية، تقول إن بكين تبالغ في تصوير تهديد هذه الفئة بهدف تشديد قبضتها على المنطقة الغنية بالنفط والفحم واليورانيوم. ويرى المؤرخون أن علاقة الإسلام بالصين قديمة جداً إذ بدأت مع عهد الخليفة عثمان بن عفان سنة 29 هجرية. وكان ذلك عندما أرسل وفداً برئاسة سعد بن ابي وقاص الى امبراطور الصين يدعوه للدخول في الإسلام. وتؤكد مصادر مطلعة أن علاقة الإسلام بالصين ترجع إلى نمو الشبكات التجارية بين البلدين، وأن عدد المسلمين في ذلك الاقليم يصل إلى مئة مليون نسمة. ويبرر الحزب الحاكم في بكين استخدام قبضته الحديدية لتطويع سكان هذا الاقليم بالقول إن البلاد تضم 55 فئة من الاقليات، وأن السماح بتحقيق الانفصال سيؤدي حتماً إلى تفكيك الصين حسبما ترغب الولاياتالمتحدة. عقب إعلان انتقاء بكين لدورة 2008، قرر حكام الصين تقليد دورة 1936 التي استغلها هتلر لإزاحة كل الدول الأوروبية عن عرش الدورات الأولمبية. وكما وظّف الفوهرر في حينه المهندس الشهير البرت سبير لتجديد برلين بطريقة فخمة وضخمة تصلح لتسمية «عاصمة العالم»، هكذا قرر الرئيس هو جنتاو تقليد هتلر حتى في استخدام نجل سبير. ودعي سبير جونيور إلى العاصمة الصينية، حيث كلف بتصميم الطرق الرئيسية المؤدية إلى وسط العاصمة ومن بينها توسيع شبكة قطارات الأنفاق. وكان من الطبيعي أن تهاجم الصحف الإسرائيلية قرار استخدام ابن سبير، لأن الطرقات التي صممها والده في برلين سنة 1936 ساهمت في هدم الحي اليهودي داخل برلين! لم يخف الرئيس الصيني تضايقه من الحملات السياسية التي استغلت هذه الدورة لمهاجمة بلاده. وقد أعرب عن امتعاضه من الانتقادات التي وجهها لنظامه الرئيس جورج بوش، الذي طالب بالحرية الدينية كمظهر من مظاهر التسامح والاعتراف بحق الآخر. وهاجمته صحف بكين لأنه يبشر بحرية يمنعها عن المسلمين في الولاياتالمتحدة بحجة تطويق عوامل الإرهاب. ويبدو أن الرئيس هو جنتاو سيرد على هذه الحملات بممارسة مزيد من الانغلاق الداخلي والعزلة الخارجية. وهذا ما فسره المحللون للعبارة التي أطلقها هذا الأسبوع معرباً بذلك عن سخطه ومرارته من تأثير التهجمات المبرمجة. واستعمل للتعبير عن استيائه مثلاً صينياً قديماً يقول: «عندما تفتح نوافذ منزلك، فلا تتبرم من دخول الذباب». وكان بهذا الكلام يشير إلى الأسبوعين المقبلين، بانتظار انتهاء الدورة الأولمبية كي يعود إلى اغلاق نوافذ الصين من جديد، وإنما في وجه «الذين» يعتبرهم من صنف الذباب! عن صحيفة الحياة 9/8/2008