لم يكن في جعبة أعداء الشعب الفلسطيني ممن لا يريدون له ولهذه الأمة أن تقوم لهم قائمة، إلاً أن يوجهوا طعناتهم الغادرة إلى شرايين الحياة التي تمد هذا الشعب بالقوة على البقاء، والقدرة على مواجهة رزايا وخطايا الإخوة والأعداء على حد سواء.
ففي آخر هذا المسلسل السقيم من المضايقات التي يخططون لتوقيعها على المليون ونصف المليون من الفلسطينيين الصابرين في قطاع غزه - وتحديدا الرئيس عباس وفياض، وإسرائيل وأمريكا والاتحاد الأوروبي - قطع الكهرباء عن سكان غزه - كالذي حدث منذ ظهر يوم الأحد الموافق 19 أغسطس الجاري وحتى يوم الأربعاء الماضي - وإغراقهم في ظلام دامس، وإفساد ما يدخرونه من مئونة قليلة يواجهون بها الأيام "السود" التي يتوقعون حلولها عليهم في أية لحظة، ناهيك عن توقف المعامل والمصانع القليلة التي لم تدمر بعد، إضافة لتعطيل المستشفيات عن القيام بمهامها الإنسانية، وتلف الأمصال والأدوية التي تحتاج لتبريد متواصل.
أما الأسباب التي سيقت لتبرير إغراق غزه في ظلام دامس لعدة ليالٍ، فحدث عن زيفها وبطلان صدقيتها ولا تسل. فهناك من قال بأن انقطاع الكهرباء، كان بسبب توقف الأوروبيين عن دفع فاتورة وقود الكهرباء للشركة الإسرائيلية. وهناك أرباب السلطة في رام الله الذين حملوا مسئولية انقطاعها لحماس، بدعوى أن الأموال التي جبتها من المواطنين ثمنا للكهرباء التي استهلكوها، قد استغلتها في دفع رواتب عناصر القسام والقوة التنفيذية. وهناك من رجال السلطة العتاة من دعا سكان غزه للخروج إلى الشوارع احتجاجاً على استيلاء حماس على أموال شركة الكهرباء وصرفها على كوادرها.
لكن الحقيقة هي: إنه أصبح لزاماً على أهل القطاع أن يدفعوا مزيداً من الثمن مقابل الاستقرار الأمني الذي باتوا يتمتعون به، بعد التخلص من بؤر الفساد الأوسلووية. وهي (أي الحقيقة) لا تبتعد بأي حال، عن أن الأطراف المحلية والعربية والدولية التي باتت تفرض حصاراً شديداً ومتواصلاً على قطاع غزه، بسبب سيطرة حركة حماس منذ يونيو الماضي عليه .. هي التي تقف وراء هذا الفعل المشين، ليس بحق أهل غزه فحسب، وإنما بحق الإنسان والإنسانية التي يتغنون بها، وهي أيضاً (أي تلك القوى) التي افتعلت هذه الأزمة التي أضير منها ثلث سكان القطاع، وجعلتهم يتخوفون من تكرارها كوسيلة للضغط عليهم كي يثوروا على حماس.
ومما يؤكد هذه الحقيقة، أن ثمة تصريحات صدرت عن ثلاث جهات حول المشكلة، كان أولها ما صرح به المتحدث باسم المفوضية الأوربية "أليكس دوموني" عن أن الاتحاد الأوروبي لم يقم بتسديد فاتورة الوقود للشركة الإسرائيلية التي تزود محطة كهرباء غزه بالوقود، وأنه يجري الآن تقويم شامل للوضع دون أن يقدم أي إيضاحات [القدس العربي]. والثانية جاءت من أرباب السلطة الفلسطينية في رام الله الذين صرحوا بأن حركة حماس تستولي على الأموال التي يجري تحصيلها من السكان مقابل الكهرباء التي يستهلكونها. والثالثة جاءت على لسان الإسرائيليين الذين هددوا مراراً بقطع الكهرباء وحتى الماء عن القطاع، إذا لم يوقف الفلسطينيون قصف المستوطنات الإسرائيلية الحدودية بالصواريخ.
لكن الإيضاحات التي أشار إليها المفوض الأوروبي يمكن فهمها من خلال:
1- اتهامات ممثل حماس في لبنان لأرباب السلطة في رام الله، الذي صرح بأن الرئيس عباس، تقدم بطلب رسمي للأوروبيين بعدم تمويل وقود الكهرباء بالقطاع[إسلام أون لاين].
2- كما جاءت في صورة تبرير (غير مبرر) من رئيس هيئة البترول في السلطة الفلسطينية مجاهد سلامة، حين أكد أن الأوروبيين أبلغوا الشركة الإسرائيلية التي تقوم بتزويد محطة الكهرباء الرئيسية في غزه بالوقود، بأنهم لن يقوموا بتسديد المبالغ المطلوبة بسبب وجود إشكالات مالية تتصل بعملية جباية ثمن الكهرباء من المواطنين، الأمر الذي استغلته السلطة في دعوة أهالي القطاع للخروج إلى الشوارع والتظاهر ضد حماس.
3- وهناك اتهام يبدو أنه منطقي، بأن سلام فياض لم يطلب من الأوروبيين اعتماد المبالغ الخاصة بوقود الكهرباء للقطاع، مبرراً ذلك بأن حركة حماس لا تقوم بتسليم الأموال التي تجمعها من المستهلكين للشركة المسئولة عن جبايتها، وإنما تستولي عليها وتستخدمها في أغراضها الخاصة.
غير أن هذه الأسباب، لا تعدو عن كونها مبررات تعسفية تستهدف تشديد الخناق على المواطنين وعلى حماس في آن واحد، وأن انقطاع الكهرباء الذي حدث يوم الأحد الماضي سوف يتكرر ضمن سلسلة من المضايقات التي سوف تمارسها القوى المحلية والإقليمية والدولية المعادية على سكان القطاع كي يثوروا على حماس، ويعودوا للسير في ركاب الأجندة الصهيوأمريكية لحل القضية الفلسطينية، وتحت وصاية الأوسلوويين وظلمهم.
والدليل على ذلك ما صرح به ، بأن إسرائيل سوف تقطع الكهرباء عن محطة عسقلان (في فلسطينالمحتلة عام 48) التي تؤمن نحو 70% من الكهرباء التي يزود بها القطاع، إذا ما استمر إطلاق الصواريخ على المستعمرات الإسرائيلية [إسلام أون لاين].
والحقيقة أنه ليس من الغريب على العدو الإسرائيلي أن يتخذ أي إجراء طالما كان يصب في صالحه. لكن المستهجن حقاً على أرباب السلطة في رام الله، أن يعتقدوا بأن مثل هذه الأفعال يمكن أن تحتسب لصالحهم حتى في صراعهم الدائر مع حركة حماس لسبب بسيط ، وهو اعتقادهم السقيم بأن استخدام القوة مع هذا الشعب وتجويعه وحصاره وممارسة المزيد من التعذيب والعزل، يمكن أن يخضعه لرغباتهم ويجعله أسير أوامرهم.
هم في هذا واهمون، لأن تجربة إسرائيل الفاشلة في استخدام أقصى درجات القوة مع هذا الشعب، وفشلها الذريع في تركيعه، وفرض الأجندة الصهيوأمريكية لحل القضية الفلسطينية عليه، ما زالت ماثلة أمام أعينهم وأعين عتاة المجرمين من جنرالات إسرائيل وعملائها المحليين. لكنهم مع الأسف لا يتعظون. فحتى لو نجح حصار إسرائيل والغرب وغيرهم في إخراج حماس من الساحة، فهل يعتقد هؤلاء الأوسلوويين أن الشعب سوف ينسى لهم وقوفهم مع الأعداء؟ وينسى لهم مشاركتهم في إذلال الفلسطينيين وتجويعهم؟، وهل يعتقدون بأن هذا الشعب سيتخلى عن ثوابته مهما طال الزمان؟.
المقاومة التي لفظها فياض من برنامجه، ومن قبله عباس والراحل عرفات، والتي عمل دحلان والرجوب على قمعها بالقوة، سوف تستمر رغم عودة دحلان للضفة (للفرجة على سقوط حماس – على ما يقول - بعد سنة من عودته الميمونة لأحضان عباس)، ورغم عودة الرجوب عن التوبة التي حاول بها التكفير عما فعله ضد المناضلين من الشباب الفلسطيني أيام اجتياح شارون الدموي للضفة في عملية الجدار الواقي بالضفة عام 2002.
فها هو دحلان يعود ليصرح، بأنه سيقف متفرجاً خلال الفترة القادمة، وها هو الرجوب يعود ليحمل حماس كل ما آل إليه الوضع الفلسطيني من فرقة وتشتت وفساد، بعد ما امتنع لفترة عن إدانة حماس، وبعد أن استطاعت سلطة أوسلو أن تستولي بالترغيب والترهيب على قطاعات لا يستهان بها من حركة فتح، حتى أصبح هناك ما يطلق عليه مصطلح "فتح أوسلو" الموالية لأمريكا.
والواقع أن من أطلق هذا المصطلح في كتاباته على المناصرين من حركة فتح لعباس والسيناتور فياض، بدلاً من لقب "حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح" التي كان شعارها "ثورة حتى النصر".. كان محقاً إلى أبعد الحدود. فيبدو أن شعار "ثورة حتى النصر" قد تحول الآن - في مفهوم عباس وفياض وفتح أوسلو - إلى "خضوع واستسلام حتى آخر شبر من فلسطين التاريخية" بعد أن تخلى أرباب السلطة عن حق المقاومة واستهانوا بحق العودة واستعادة كامل القدسالشرقية لأهلها. وهذا جل ما يريده الأعداء أيا كان انتماؤهم، والذين يعرفهم الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وشعوب العالم الثالث.